مجلة البعث الأسبوعية

الأحزاب القومية ودورها في نشر الوعي بين الجماهير.. البعث أنموذجاً

البعث الأسبوعية – طلال ياسر الزعبي

لا شك أن فكرة القومية قديمة قدم التاريخ، فهي ليست وليدة هذا العصر الذي بدأت فيه النزعات القومية تظهر بشكل واضح نتيجة الحروب والصراعات التي نشأت غالباً على أساس رغبة مجموعة بشرية معيّنة في السيطرة على مجموعة بشرية أخرى مختلفة عنها واحتلالها وسرقة ثرواتها، وإنما كانت بذور هذه الفكرة موجودة عبر ما سُمّي آنذاك نظام القبيلة أو العصبية للقبيلة التي هي بالمحصّلة عصبية للدم، مع كل ما يحمله هذا المفهوم من عصبية عمياء تجعل مفهوم القبيلة فوق كل المفاهيم المعنوية الأخلاقية التي ينبغي أن تكون أساساً في هذا الانتماء.

ولسنا الآن في معرض الحديث عن أصول كلمة القومية التي هي مصدر صناعي منتهٍ بياء النسبة وتاء التأنيث، ولكن للتوضيح أن المصطلح لم يكن وليد هذه المرحلة من الزمن، إذ إن مفهوم الانتماء موجود تاريخياً لدى جميع الشعوب، ولكن النظرة إليه اختلفت من شعب إلى آخر.

ولا ريب أن الحركات القومية في الوطن العربي نشأت على خلفية الاحتلال العثماني الذي استمرّ منذ القرن السادس عشر الميلادي إلى بدايات القرن العشرين، حيث تمكّنت المنطقة من إخراج المحتل العثماني، لتستقبل الاستعمار الجديد ممثّلاً بفرنسا وبريطانيا بالدرجة الأولى اللتين تقاسمتا ما يسمّى “تركة الرجل الضعيف”.

ولكن مفهوم القومية العربية بمعناه الواسع ظهر بشكل قوي خلال الحرب العالمية الأولى التي حملت طابعاً قومياً على الأغلب، حيث راح العرب يبحثون عن الرابط القومي الذي يربطهم ليكون أساساً فكرياً للعلاقة فيما بينهم، أسوة بالنزعات القومية التي ظهرت في أوروبا في تلك الفترة.

ولأن الأمة العربية تملك مقوّمات متماثلة تربط بينها أكثر من غيرها من الأمم، كالدين واللغة والتاريخ المشترك والعادات والعرق والأماني المشتركة، كان من الطبيعي أن تلقى فكرة القومية العربية رواجاً بين أوساط المثقفين العرب الذي عايشوا فترة الاحتلال الغربي للوطن العربي، الأمر الذي مهّد لنشوء عدد من الأحزاب القومية على الساحة العربية التي تربط بينها أهداف مشتركة تتمحور في مجموعها حول الحرية والاستقلال ومقاومة المستعمر الغربي والوحدة التي نادى بها معظم الأحزاب القومية الناشئة آنذاك على اختلاف النظرة إلى هذا المفهوم.

البعث والقومية العربية

استطاع حزب البعث العربي الاشتراكي أن يعلن عن أهدافه القومية منذ انطلاقته حيث رفع شعاره الثابت والدائم، “أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة”، مؤكّداً أن الوحدة العربية هي الهدف والمبدأ الأساسي، الأمر الذي منحه بُعداً قومياً واضحاً في شعاراته ومبادئه ونضاله، حيث جاء دستور الحزب معبّراً عن هذه الحقيقة في عدد لا بأس به من مواده، فالعرب أمة واحدة لها حقها الطبيعي في دولة واحدة حرّة في توجيه مقدّراتها، والحزب يعالج السياسة القطرية وفقاً للمصلحة القومية العليا.

واستطاع البعث أن يكون حزباً عربياً شاملاً انتشرت فروعه في سائر أقطار الوطن العربي، الأمر الذي يؤكّد ارتكاز البناء التنظيمي القومي على الإيمان بوحدة الأمة العربية وقد تم تطبيق هذا البناء على أرض الواقع عبر سلسلة المؤتمرات القومية، من خلال ترسيخ مبادئ الحزب وأهدافه وشعاراته وأساليب نضاله عبر متابعة مسيرة منظمات الحزب القومية، فكان مشروع حزب البعث العربي الاشتراكي مشروعاً قومياً عربياً جامعاً. كل هذه الميزات جعلته الحزب الأقوى والأفضل في الوطن العربي مضموناً وفكراً وعقيدة وتعبيراً جاداً عن حاجات الجماهير العربية المتطلعة فعلياً إلى بناء وحدتها، حيث القوة والقدرة على الخروج من حالة التجزئة والتشرذم والضعف التي تعيشها معظم أقطار الوطن العربي، وهذا بالضبط كان سبباً قويّاً في الحرب التي شُنّت عليه من دول الاستعمار والإمبريالية التي تعمل عادة على فرض مبدأ “فرّق تسد” الذي تستطيع من خلاله نشر الفوضى والصراعات بين أبناء الأمة الواحدة، ولذلك تمّ فعلياً زرع مجموعة من الحركات التي تمّ تأسيسها على أساس ديني من أجل الوصول إلى صراعات داخلية داخل الدول العربية بين الأحزاب الدينية المدعومة غربياً وعلى رأسها حزب الإخوان المسلمين وتوابعه، والأحزاب القومية العربية التي تلتقي على وحدة المصير بين الدول العربية وعلى رأسها حزب البعث.

وأيّاً يكن من هذا الأمر، فإن حزب البعث تمكّن خلال مسيرته النضالية الطويلة من فرض صوابية نظرته إلى واقع الأمة العربية وضرورة الوصول بها إلى حالة من الوحدة، أو على أقل تقدير التضامن، لمواجهة المشكلات والأزمات التي تتعرّض لها، وخاصة في ظل سعي استعماري قديم جديد إلى شرذمة الأمة ودفعها إلى أحضان الاستعمار مجدّداً عبر تفريقها وتجزئتها، فكانت رسالة الحزب واضحة في ضرورة مواجهة هذه المحاولات الرامية إلى إعادة الاستعمار من جديد وفرض الحلول الخارجية في قضاياه المصيرية، وعلى رأسها القضية المركزية للأمة العربية وهي القضية الفلسطينية.

فالبعث حركة نضالية قومية ثابتة على مبادئها وإن كانت أساليب العمل تتطوّر وفقاً للظروف ومعطياتها، حيث شكّل منذ ولادته حدثاً قومياً تاريخياً أثرى الفكر القومي العربي، ومثّل أيضاً طموح الجماهير العربية في تحقيق تطلعاتها في الوحدة والحرية والاشتراكية.

الحزب والمقاومة

واستطاع الحزب أن يحافظ على الوحدة الوطنية للشعب العربي في سورية بوصفها القاعدة الصلبة لمواجهة أعداء سورية والأمة العربية، وبنى جيشاً عربياً سورياً للتصدي لهؤلاء الأعداء وخاصة بعد قيام الحركة التصحيحية التي قادها القائد المؤسّس حافظ الأسد، ولم يكتفِ الحزب في بناء القوة السورية بل عمل على دعم المقاومة العربية لمواجهة الأعداء في فلسطين ولبنان والعراق وفي أي قطر عربي، كما أغنى النضال القومي ودعم حركات التحرّر العربية وحتى العالمية ووضع القاعدة الأساس للمشروع النهضوي القومي العربي.

فمشروع البعث القومي أسهم بشكل كبير في تفعيل دور الأمة العربية الحضاري والثقافي ووضع الأساس لإنقاذها من تداعيات ما لحق بها من مشاريع الاستعمار التي عملت على تجزئتها وتفكيكها وخلق الصراعات البينية وحتى بين أبناء القطر العربي الواحد، وبالتالي كان دور الحزب واضحاً في التصدّي لما يسمّى “الربيع العربي” الذي أطلقه الغرب لبثّ الصراعات والنزعات الطائفية بين أفراد الأمة الواحدة وصولاً إلى تقسيمها وشرذمتها وتحويلها إلى كانتونات متناحرة، تؤمّن وجوداً طبيعياً للكيان الصهيوني المصطنع في المنطقة، وهو أمر لم يدركه العرب في بداية هذا المشروع الصهيوني، غير أنهم اضطروا إلى معاينته مؤخراً والاعتراف بأن سورية التي يقودها الرئيس بشار الأسد الأمين العام لحزب البعث، كانت على صواب عندما دعت إلى محاربة الإرهاب والفكر المتطرّف الذي دخل إلى الساحة العربية بدعم غربي واضح للوصول بها مجدّداً إلى العودة إلى حضن الاستعمار، وهذا اعتراف ليس فقط بدور سورية في إفشال هذا المشروع، وإنما بدور الحزب الذي نادى دائماً بضرورة أن يكون الانتماء في المنطقة العربية مبنيّاً على أساس قومي، لأن القومية العربية هي الجامع الوحيد الذي يجمع الشعوب في المنطقة على اختلاف انتماءاتها المذهبية والطائفية، وبالتالي استطاع الحزب مجدّداً أن ينتصر على جميع الحركات المتطرّفة التي أرادت إشاعة التناحر في المجتمعات العربية خدمة للمشروع الصهيوني.

الحزب ومعركة الوعي

لقد أدرك حزب البعث العربي الاشتراكي منذ تأسيسه بصورة واعية عميقة واقع الأمة العربية والظروف السائدة في الوطن العربي، فركز في مشروعه وفكره على حقيقة أساسية هي ضرورة بث الوعي بين صفوف أبنائه، وصولاً إلى حالة من الوعي في صفوف الجماهير العربية بمفهوم الوحدة العربية كهدف مركزي ومصيري، وهذا ما جعله حزباً مرناً قادراً على التأقلم مع جميع الظروف التي تعرّضت لها الأمة العربية مجتمعة طوال الفترة الماضية من تاريخه وتاريخ الأمة. والحرية في مفهوم الحزب هي الأساس للنهوض القومي ومقاومة الاستعمار، بينما تعدّ الاشتراكية طريقاً لإطلاق وتنظيم طاقات الأمة ورفع مستوى المواطنين وإزالة الظلم الاجتماعي والاستغلال الاقتصادي. فالوطن العربي وحدة سياسية واقتصادية لا تتجزأ ولا يمكن لأي قطر من الأقطار العربية أن يستكمل شروط حياته منعزلاً عن الآخر، حيث للعرب وحدهم حق التصرّف بشؤونه وثرواته وتوجيه مقدّراته.

وبما أن المعركة الدائرة حالياً في العالم هي معركة وعي بالدرجة الأولى، كان للبعث دور واضح في فضح الكثير من المفاهيم الغربية التي أريد بها كيّ الوعي، وخاصة في المنطقة العربية التي عاشت في الفترة الأخيرة مخاض إعادة تشكيل المنطقة وفق المشروع الصهيوني، فكان الحزب في طليعة المحذّرين مما يحاك لهذه الأمة من مكائد، حيث عرّى “الربيع العربي” وفضح أساليبه الخبيثة في تزوير الصورة وبث الدعاية المضلّلة، كما تمكّن بحكم المرونة التي تمتّع بها تاريخياً من الإبقاء على قدر من التواصل مع الجماهير العربية في الأمة، وصولاً إلى تحقيق القدر الأدنى من التضامن، بدلاً من فقدانه نهائياً، ومن هنا كان قبول سورية العودة إلى الجامعة العربية ومشاركتها في اجتماعاتها.

 

البعث هو الأقوى

على أن جميع الحركات السياسية العربية التي نشأت في القرن الماضي تعرّضت لعدد كبير من النكسات عبر تاريخها، وربّما اندثرت هذه الحركات أو انقسمت على نفسها، بينما استمرّ حزب البعث محافظاً على مبادئه وأفكاره رغم جميع الضغوط التي مورست عليه، وفي ذلك يقول بعض المفكّرين المتخصّصين في موضوع الأحزاب السياسية: أظنّ أن حزباً واحداً قد نجح في ذلك الاختراق القطري وأعني به حزب البعث العربي الاشتراكي الذي عكفت على تأسيسه بضعة أسماء معروفة في تاريخه من رواد حزب البعث الأوائل. ولقد انتشر الحزب منطلقاً من سورية إلى العراق والأردن ولبنان ليمثل قوة ضاغطة على الحياة السياسية في تلك الدول، لا تزال آثارها قائمة حتى الآن.