ثقافةصحيفة البعث

هاشم ميسَر: الحداثةُ شأنٌ نسبيٌّ وعلاقةٌ تكامليّةٌ بين الشاعرِ وقرّائهِ

فيصل خرتش

احفظوا هذا الاسم، هاشم ميسَر، شاعر ينظم الأكوان شعراً ويصنع منها قلادة يسكن فيها إلى عالم كله نور، يعيش وحيداً، ظروفه علّمته أن يكون شاعراً، التقيته في إحدى النجوم، وبادرته الأسئلة:

متى اكتشفتَ أنك شاعر، وكيف كان ذلك؟.

إنّ التوقيتَ بالنسبة للشاعر أمرٌ ثانويٌّ، وما يهمّه بالدرجة الأولى هو الحدوث الأقصى للشيء من دون أطُرٍ زمانيّة أو مكانيّة.. بإمكاني على وجه غير دقيق تحديد تلك الفترة التي اصطدمتُ بها بالشاعر الذي في داخلي، ألا وهي فترةُ الطفولة؛ وأستحضرُ موقِفاً كان له دورٌ شاعريٌّ كبير في ترسيخ بعض مزاعمي.. ذاتَ يومٍ صيفيٍّ كنتُ ألعبُ لعبةَ (التخليص) مع رفاق الحارة صبيةً وبناتاً، إلى أنْ ذهبتِ اللعبَةُ مذهبَ الميوعَةِ؛ ذلك لما كان يصدِرُ من تصرّفاتٍ طفوليّةٍ من الرفاق، فاتخذتُ موقفاً منهم، وتركتُ اللعبَ، ورحتُ من بعيدٍ أراقبُهم بصمت، من دونَ أن أنتبه لمن كان يجلس في جانبي آنذاك، وفي خضمِّ مراقبتي لهم، وإيماءاتُ وجهي التي كانت توحي بشيء من الغضب وعدم الرضا، أتى صوتٌ أنثويٌّ من جانبي، محمّلاً بسؤال: لماذا لا تلعبُ معهم؟ فالتفتُّ مستعجباً، وإذ بها الفتاةُ التي يطمح إليها كلُّ صبيٍّ في الحيِّ، تسألني أنا، أنا دونَ الآخرين، فما كان عليَّ إلّا أن أرتجِلَ، وأُجيبَها بشكل لائقٍ ولافتٍ للانتباه، فاستجمعتُ انفعالي كاملاً في قبضةِ حَنجرَتي وقلتُ بنبرةٍ واثقة: أنا شاعر، وأقف الآن هنا لأراقِبَهم، وأعودَ إلى البيت، فأكتُبُ ما جرى بقصيدةٍ.. أعتقد حينها أنها فهِمتْ قصدي إلى حدٍّ ما، وإن كان عقلُها حينذاك صغيراً، لكن جمالُها الفذُّ، كان بإمكانِهِ أنْ يحِلَّ محلَّ العقلِ.. عقَّبَتْ على ما قلتُ بإيماءةِ قَبول، وما كان منّي سوى أن أردّ على سؤالها بالسؤال ذاته، فأجابتْ: أنا أيضاً أتحاشى اللعبَ معهم لأنّي أجملُ فتاةٍ بين فتياتِ الحارة، وسيترُكُ الصبيّةُ كلَّ الأُخرياتِ في اللعبة، ويلحقون بي فقط، وهذا أمرٌ شِائقٌّ.. من يومِها أعتقدُ أنّي صرتُ ما صرتُ، كما أعتقد أن تلك الفتاةَ قد صارتْ ربَّةَ جمال تُلهم الشعراءَ.. عدتُ يومَها إلى غُرفتي ونصّبتُ نفسي شاعراً على الجدران بشكل مبدئيٍّ، وشيئاً فشيئاً خرجتُ إلى العالم.

هذه قصّةٌ قصيرة، وإجابةٌ عن السؤال، ضربتَ عصفورين في حجر واحد.. الآن بغضِّ النظَرِ عن اللغة، ما الرؤيا التي تحمِلُها قصائدُكَ في مضمونِها؟.

منذ بداياتي لم أكفَّ عن تطوير رؤاي الشعريّة شأنُها في ذلك شأن اللغة، كما لم أكفّ عن القفز من منهلٍ كونيٍّ أستقي منه لآخرَ.. لا أقفُ على معاجمَ بعينِها، أو على قضيّةٍ بذاتِها، ولا يعنيني أمرُ البصمةِ الشعريّةِ التي يُمسكُها الشعراءُ سلّماً بالعرض، ويمشون في الطُرُقِ الضيّقة، فالبصَمةُ الشِعريَّةُ في رأيي هي القصيدة الجديدة دائماً، سواءٌ أكانت تحمِلُ ذاتَكَ الشِعريّةَ التي في قصائدك السابقة، أم كانت جديدةً تماماً.. إذاً فالبصمَةُ الشِعريّةُ ليست الحذلقة في التقليب، أو تخمين الاحتمالات الممكنة لاستخلاص أكبر عدد من المعاني بناءً على كلمتين، فيُسجّل ذلك براءةَ اختراعٍ للشاعر أبداً، وقد قلتُ فيما سبق “القصيدة الجديدة” ولم أقل “الحديثة” رؤيةً منّي بأنَّ التجديدَ شأنٌ شخصيٌّ، بينما الحداثةُ شأنٌ نسبيٌّ وعلاقةٌ تكامليّةٌ بالدرجةِ الأولى بين الشاعرِ وقرّائهِ؛ أيْ أنها ليستْ رداءً يُرتدى على سبيل الاستعراض، ويُخلع عندما تتطلّب حركةُ الشارع ذلك.

أمّا من ناحيةِ اللغةِ والرؤيا الشعريّة، فلا أرى انفصالاً دِلاليّاً بين هاتين الكِلمتين في حقل الشِعرِ، فهما عمادان مترادفان تقوم بهما شعريّةُ كلِّ شاعرٍ، فاللغةُ الشعريّةُ هي الرؤيا ذاتُها، والرؤيا الشعريّةُ كذلك هي اللغةُ ذاتُها، ويشمل هذا أيضاً الشعراءَ الذين يعتمدون بالدرجة الأولى على اللغة في بناء قصيدةٍ ما، بأنَّهم في مرحلةٍ معيّنةٍ داخلَ كيانِ القصيدة سيغدون رائينَ بالضرورة؛ ليتمكّنوا من الاستمرار؛ أيْ من الممكن أن تخملَ الرؤيا أحياناً على حساب وجودٍ أكبرَ للغة، لكن لا يمكن أن تخمد نهائيّاً.. أضربُ نفسي مثالاً على خمول الرؤيا، وحسبَ زعمي أنَّ لديَّ حساسيّةً خاصّةً مع اللغة؛ فحين أكونُ داخلَ كيانِ قصيدةٍ ذاتِ طابعٍ فلسفيِّ مثلاً، ويجرّني حِملُها اللغويُّ لمنحى لا عِلاقةَ له بالفلسفة، فسأضطرُّ حينها على أنْ أسخّر طاقةَ الرؤيا عندي كاملةً لخلقِ وشائجَ بينَ ذينِكَ القُطبين المُتباعدينِ، وبذلك أكون واعياً لغويّاً، وواعياً رؤيويّاً في آنٍ معاً.. أمّا بالنسبة للمواضيع التي أتناولُها في قصائدي، فتتنوّع ما بين الاغتراب والوجود بشتّى كياناتِهما الجُوانيّة، وما بين اللّذّة والحبِّ بكل أوجهِهما.. بمعنى آخرَ.. أنذرُ حصّتي من مردود تجاربي الوجوديّة للشِعر.

تحرّضني على أن أسألك أكثر فيما يخص شاعريتك، فأرى أنّ ذلك يستفز نزعتك السردية الجميلة، لكن الآن دعنا نتحدث عن الحرب وما تركته من آثار على تجربتكَ الشعريّة؟.

طبعاً لكلِّ مرحلة عصريّة حصّتُها من التأريخ والفِكرِ والشِعرِ، ولا بدَّ من أنّ الحربَ في سورية قد تركتْ آثارَ عجلاتها على أرض وعيِنا الجمعيّ، ولكن لا مناصَ من العبارة التي تقول: “أدبُ الحربِ يُكتبُ بعدَ الحرب”، فعلى امتداد التجارب الأدبية المعاصرة، لم يحدثْ أنْ تمَّ إنتاجُ عملٍ أدبيٍّ أو تأريخيٍّ كامل تناول الحرب بشكلها الفعليِّ، إنّما كلُّ ما تمَّ إنتاجُه إلى اليوم هو ومَضاتٌ أو إسقاطات أو لِنَقُلْ: صورةٌ غيرُ مكتملةِ الملامح. ومردُّ ذلك إلى أن الحربَ لم تنتهِ بعدُ، وإن غيّرتْ حلّتَها.. بالنسبةِ إليّ لم آخذْ من الحربِ أو من صورةِ الحرب متّكأً شعريّاً ترتكز عليه قصائدي، بل بقيتُ واقفاً على عتبة الصورة، أحاول من خلال مراقبتي لما يحدث، أن أمازِج بين فكرتين؛ فكرة ما يجب أن يكون عليه الشِعرُ في وقتِهِ العاديّ، وفكرة ما تفتحه الحربُ على الشِعر من تطوّراتٍ دلاليّة أو تأريخيّة، وأعتقِدُ أني أنتجتُ نصّينِ في هذا المضمار تناولا هذه الجدليّةَ، أقول في أحدهما:

وقفْتَ ومن حـقِّ الغريبِ وقوفُ

وأنْتَ: اصْطدامٌ، صُدْفَةٌ، ورصيفُ

وقفْتَ وللدرْبِ البعيدِ حكايةٌ

تخونُكَ فيها حِقْبَةٌ وظروفُ

برغْـمِ احْتمالاتِ العبورِ جميعِها

يشدُّكَ للجرْحِ القديمِ نزيفُ

كأنّكَ والأشياءُ تُحصي اغْترابَها

تَعُدُّ الثرى موْتًا.. وأنتَ تُضيفُ

تغرّبتَ في الماءِ الذي يشرحُ اللظى

فكلُّ شظايا الآخرينَ ضيوفُ..

شيئاً فشيئاً رحتُ أضعُ بعضَ البرامجِ القرائيّة التي أُعدُّها بنفسي؛ لتكونَ قراءتي أكثرَ تنظيماً، لكن فيما بعدُ لم يُجدِ ذلك نفعاً، إذ لاحظتُ أني أقعُ فيما أُسمّيه بـ”أوهام الانطباع الأوّل”، بمعنى آخر: كنتُ أعرفُ ما سوف أعرف قبل قراءة الكتاب، أو على الأقل كنتُ أتوقّعه، فمرّةً مثلاً كانت روايةُ “الغريب” لـ”كامّو” ضمن برنامجي، فأخذتُ أقولُ في نفسي قبل أنْ أصلَ إليها: ستعيش بضعةَ أيّامٍ في غُربةٍ لا يُعرفُ كُنهُها، فهيءّْ نفْسَك.. وبالفعل استبقتُ المضمونَ وأحطتُ نفسي بهالةٍ مكوّنةٍ من كآبةٍ شفيفةٍ، وحزنٍ أبيضَ.. ومع ذلك فلا أفرغُ وأنا مقتنِعٌ؛ بل أفرغُ وأنا مستفيد، فالقناعةُ في هذا الموضعِ تُشبهُ تماماً الاستسلامَ، وأعني بالاستسلامِ ذاكَ الوهمَ بأنْ ما من داعٍ بعد الآن لمواصلةِ القراءة.. وهذا بالضبط ما أُحاوِلُ دخضَهُ، فالتوقّف عن القراءة، بعد قراءةِ عمل يُظنُّ بأنّهُ عظيمٌ، لهو استسلامٌ مجانيٌّ لإيديولوجيا تتسلّل إلى وعينا ونحن عاطلون عن القراءة، في حينِ أنّنا نقرأ لنهربَ من إيديولوجيّاتنا السابقة، ولو بشكلٍ لحظيٍّ؛ فلحظةٌ فوق لحظةٍ فوق أُخرى تشكّلُ في نهايةِ الأمر أبدي، وقد قلتُ فيما سبق بمقطعٍ من قصيدة “المظامِئ”:

الآنَ الآنَ فقطْ

كلُّ شيءٍ غلَطْ

وصحيحُ..

الآنَ عرفتُ ولم أعرفْ قطْ:

أنّ التاريخَ الكامنَ في الأوراقِ كما الأوراقِ؛

تحرِّكُهُ الريحُ.