تحقيقاتصحيفة البعث

نحن نُصدّق الحكومة عندما تؤكد أنها تدعم الإنتاج والناس بـ “كل إمكاناتها”!

خلافاً للكثيرين، نحن نُصدّق الحكومة عندما تؤكد في كل المناسبات والاجتماعات، وأمام المؤتمرات النقابية والمهنية، وتحديداً لقواعد التنظيمين العمالي والفلاحي، بأنها تدعم الإنتاج والناس بكل إمكاناتها!
مثلاً، شددت الحكومة في اجتماع لمجلس الوزراء يوم 31/ 10/ 2023 “على الوزارات والجهات المعنية بذل أقصى الجهود لإنجاح تسويق كامل موسم الحمضيات وتقديم التسهيلات لإيصال المنتجات إلى جميع المناطق”، وعدم ترجمة هذا التشدد إلى فعل لا يعود إلى الحكومة، وإنما إلى الوزارات المعنية التي قصّرت بتوفير التسهيلات والإعفاءات الجمركية والضريبية، لكن تقصيرها مبرر جداً فهي لا تتمتع بأيّ صلاحيات لتنفيذ “تشدد” الحكومة!
لاحظوا أن الحكومة تؤكد في معظم اجتماعاتها “على تقديم كل الدعم الممكن لتنشيط الإنتاجين الزراعي والصناعي”، وفعلاً فإن الوزارات المعنية لا تقصر بتقديم كل الدعم “الممكن” للقطاعين الصناعي والزراعي!
ترى ما ترجمة تأكيدات الحكومة المتكررة في كل مكان وزمان بأنها تدعم الإنتاج والناس بكل إمكاناتها؟
والسؤال الأهم: لماذا الفعاليات الاقتصادية والتجارية والصناعية والزراعية ومعهم ملايين الأسر السورية غير مقتنعة بأن الحكومة تدعم الإنتاج والناس بكل إمكاناتها؟

ما بين المطالب والموارد 
لم تخف الحكومة يوماً أن مواردها محدودة جداً، وأن خطط الإنفاق على المال والإنتاج ملحوظ بالتفاصيل المملة في الموازنة العام للدولة، وبالتالي فدعم الإنتاج والناس يكون دائماً بـ “كل الإمكانات” المالية المرصودة في الموازنة، ولكل وزارة اعتمادات لا يمكنها تجاوزها، فالنية بالدعم متوفرة للحكومة لكن بالإمكانيات المتاحة وليس وفق رغبات أو طلبات المنتجين والناس!
كانت الحكومة واضحة جداً في ديباجة مشروع موازنة عام 2024 فقد أكدت أنها اتخذت “في ضوء ما توفر لها من موارد وإمكانات مجموعة من الإجراءات التي استهدفت قدر الإمكان التخفيف من الآثار السلبية على حياة الموطنين”!
لم تقل الحكومة، ولم تعد الناس، بأنها ستجعل حياتهم سهلة ومريحة، بل كانت واضحة جداً، فأقصى ما يمكن فعله لملايين الأسر السورية هو تخفيف معاناتهم بكل “الإمكانات” والموارد المتوفرة، وبالتالي إذا شعر الناس بأن معاناتهم تزداد ولم تعالج فليس السبب أن الحكومة لا تريد تحسين أحوالهم، بل إن “الإمكانات” المتاحة لم تسمح مثلا بتوزيع أكثر من دورة واحدة لمواد الدعم في عام 2023، وأكثر من 50 ليتر مازوت لنصف عدد السوريين فقط في عام 2024، أيّ أن الحكومة فعلا تدعم الناس بكل “إمكاناتها” على الرغم من إنكارهم اليومي “للكرم” الحكومي المحدود والمحكوم بالموارد المتاحة.

لا إمكانيات لزيادة الإنتاج
نعم، الحكومة تسعى في عام 2024، مثل عام 2023 إلى “اتخاذ المزيد من الإجراءات وفق خطة عمل متكاملة تضمن الانتقال إلى اقتصاد منتج مبني على تعزيز الإنتاج وتأمين مستلزماته وإعادة تخصيص الموارد وإدارتها بكفاءة”، ولكن هذا لا يعني إن إمكانات الحكومة كافية لزيادة الإنتاج من خلال دعم مستلزماته الأساسية وبما يُقلص فاتورة الاستيراد، وليس لديها أيضا “الإمكانيات” للتخفيف من الفقر ولبطالة، أما قول الحكومة أنها تعمل على “تحقيق العدالة والمساواة في توزيع الدخل وتحسين المستوى المعيشي للمواطن”، فهي مقصرة جداً بإقناع ملايين العاملين بأجر أن “إمكاناتها” محدودة جداً جداً لزيادة قدرتهم الشرائية!
لقد ارتفعت أصوات المنتجين وملايين الناس عالياً خلال العام الماضي لدعم القطاعات الصناعية والزراعية، وتحسين الرواتب والأجور، وفي المقابل كانت الحكومة تؤكد دائماً أنها تدعم الإنتاج والناس بكل “إمكاناتها” ، والمشكلة كانت أن “كل الإمكانيات” تعني أن الاعتمادات المرصودة في موازنة 2023 لم تتجاوز 16550 مليار ليرة أي أن مطالب المنتجين والناس أكبر بعدة أضعاف من كل “إمكانات” الحكومة التي أكدت في مجلس الشعب أنها أنفقتها بكاملها على المنتجين وعلى الناس!!

هل زادت “إمكانات” الحكومة في 2024؟
وها هي الحكومة تؤكد مجدداً أن شغلها الشاغل في عام 2024 “دعم وتشجيع الإنتاج الوطني لتوفير الاحتياجات وتخفيض التكاليف، والعمل على تحفيز الاستثمار بكافة أشكاله لدعم الاقتصاد وزيادة فرص العمل إضافة الى السعي لتوفير احتياجات المواطن والقطاعات الإنتاجية من المشتقات النفطية والطاقة ومياه الشرب وتحقيق العدالة في توزيعها.. إلخ”.
السؤال: هل “إمكانات” الحكومة في موازنة 2024 أكبر من “إمكاناتها” في موازنة 2023 كي تدعم المنتجين والناس بكل “إمكاناتها”، كتوفير مستلزمات القطاعين الصناعي والزراعي، وتوزيع المواد المدعومة لملايين الأسر شهرياً، لا مرة واحدة في العام، وإعادة العمل بتوزيع 400 ليتر مازوت للأسرة، لا 50 ليترا لا تصل سوى لنصف المستحقين.. الخ؟
نعترف أن الحكومة في منتهى الشفافية عندما تقول بأنها ستدعم المنتجين والناس بكل “إمكاناتها”، وإليكم الدليل الساطع على أقوالها المفحمة..
كانت “إمكانات” الحكومة في عام العام الماضي حسب موازنة 2023 تبلغ 16550 مليار ليرة بسعر صرف للدولار 3000 ليرة، أي بميزانية قوتها الفعلية أقل من 5.51 مليار دولار، أما إمكانات الحكومة في موازنة 2024، المخصصة للإنفاق على الناس والإنتاج والخدمات.. إلخ، فتبلغ 35500 مليار ليرة، وهو مبلغ يوحي إن الحكومة زادت “إمكانياتها” في الدعم بمقدار 18950 ملياراً، أي بما يتجاوز ضعف موازنة 2023 ، ولكنه إيحاء مخادع!
لقد اعتمدت الحكومة في موازنة 2024 سعرا لصرف الدولار بقيمة 11500 ليرة، وفي حال لم يتم سعر أعلى خلال الأسابيع القادمة فهذا يؤكد أن القوة الشرائية لموازنة 2024 لا تتجاوز 3 مليارات دولار، أي أن دعم الإنتاج والناس انخفض بما يعادل قوة شرائية فعلية بمقدار 2.51 مليار دولار، وهذا يعني أننا أمام زيادات جديدة في أسعار مستلزمات الإنتاج، وتخفيض القدرة الشرائية، وهذا ما لمسناه في قرارات الحكومة مع بداية العام الجديد!

هكذا دعمت الحكومة الناس 
ليس دقيقاً ولا صحيحاً القول إن الاعتمادات المخصصة للرواتب والأجور والتعويضات في مشروع موازنة عام 2024 زادت بمقدار 2466 مليار من 2114 مليار ليرة إلى مبلغ 4580 مليار ليرة سورية، فاعتمادات الرواتب والأجور لم تزداد بنسبة 116.65 بالمئة، بل انخفضت حسب السعر الرسمي للدولار المعتمد في موازنتي 2023 و2024 من 0.7 مليار دولار إلى 0.4 مليار دولار، رغم الزيادة الأسمية عليها بنسبة 100% في عام 2023!!؟؟
وكل ذلك لا ينفي قول الحكومة إنها تدعم الإنتاج والناس بكل “إمكاناتها”.. المتواضعة والهزيلةا!!
وما ذكرناه عن انخفاض القوة الشرائية للرواتب والأجور في موازنة 2024 عن موازنة 2023 ينطبق على كل القطاعات والبنود، وخاصة مايتعلق منها بالاعتمادات المخصصة للدعم الاجتماعي المقدّرة (أي ليس بالضرورة أن تُنفق كلها) في موازنة عام 2024 بمبلغ 6215 مليار ل. س، مقابل مبلغ 4927 مليار ل. س في موازنة عام 2023، فالزيادة البالغة 1291 مليار ل. س، أيّ بنسبة 26.20 بالمئة بين الموازنتين، هي زيادة ورقية، لأن الحكومة قامت فعليا بتخفيض قوتها الشرائية من 1.64 مليار دولار إلى 0.54 مليار دولار أي الإنخفاض تجاوز مبلغ 1.1 مليار دولار!

الخلاصة: نعم، الحكومة صادقة بقولها أنها ستدعم الإنتاج والناس بكل “إمكاناتها”، أيّ حسب “الإمكانات” المرصودة في الموازنة العامة لعام 2024، وهي أقل بكثير من إمكانات موازنة 2023، وبالتالي لا زيادة في الإنتاج، ولا زيادة في كتلة الدعم المرصودة للناس!

علي عبود