ثقافةصحيفة البعث

الأدب الكوري.. نضال التّأسيس وتطوّر الأجناس

نجوى صليبه

ليس الأدب الكوري بالأدب المطروق كثيراً، سواء في مجال الدّراسات أم التّرجمات، وأن تصدر دراسة حول هذا الأدب عن الهيئة السّورية العامّة للكتاب لهي خطوة جيّدة تحسب لها.

“تاريخ الأدب الكوري من العصور الوسطى حتّى نهاية القرن التّاسع عشر” هو عنوان الكتاب الصّادر عن الهيئة ضمن المشروع الوطني للتّرجمة 2023، أنجزه مجموعة من المؤلّفين وترجمه إلى العربية أحمد ناصر، ويتناول مراحل تطوّر هذا الأدب وأبرز كتّابه، شعراً ونثراً وروايةً، وبحسب مؤلفيه تشكّل هذا الأدب نتيجة تفاعل متبادل بين الفلكلور المحلّي والإرث الثّقافي الصّيني، وكان مزدوج اللغة في العصور الوسطى، يقول المؤلفون: “اقتبس الكوريّون الخطّ الهيروغليفي الصّيني، ما مكّنهم من كتابة لغة حديثهم بطريقة “إيدو”، وهو نظام خاصّ بكتابة الكلمات الكورية، ونهاية مقاطعها اعتماداً على الهيروغليفية الصّينية، وقد وجد هذا الأدب باللغة الأم والمكتوب بهذا النّظام متكأً له في البوذية التي كانت اكتسبت إرثاً متطوّراً في الخطابة الشّفهية، وسعت إلى نشر عقيدتها الأساسية بين أوساط النّاس بلغةٍ مفهومةٍ لهم، وكانت البوذية اعتمدت ديناً رسمياً، لكن كان ثمّة أدب كوري بلغة “الهانمون” المعدّل للغة الصّينية، ودعمه رسميّاً إداريّو الدّولة الكورية الشّباب”.

ويضيف المؤلّفون: “في بداية الألف الثّانية، أزاح أدب “الهانمون” الأدب المعتمد على نظام “الإيدو”، لكن الكثير من المؤلّفات الأدبية الكورية المبكّرة لم يصل إلينا، إذ إنّ المجلس العلمي الرّسمي الكونفوشوسي رفضها في وقت لاحق، لذا كان لابدّ من إعادة رسم اللوحة الأدبية اعتماداً على مقتطفات متفرّقة، ومن المعروف أنّ الشّعر في آسيا الشّرقية قد نما وتطوّر قبل النّثر، ولعلّ هذا ما حصل في كوريا أيضاً، ومع ذلك فإنّ أقدم الآثار الكورية التي تواريخها لا تقبل الشّكّ تعود إلى أدباء نثريين، ويبدو أنّها كانت مؤلّفات تاريخية، فوفق شهادة المؤرّخ “كيم بوسيك”، وضعت في “بيكشي” عام 372 “سوغي” وتعني مدوّنات، وفي “كوغور” عام 372 وضعت “يوغي” وتعني التّتمة، أمّا في “سيلا” عام 545 فوضعت “كوكس” وتعني تاريخ الدّولة، هذه الآثار اندثرت، ولم تصل إلينا، بل حفظت أسماءها مدوّنات جاءت في زمن لاحق، إنّ ما نجده في القرنين الحادي عشر والثّاني عشر في تاريخ الأدب الكوري المكتمل التّشكيل، يخوّلنا أن نفترض وجود أدب حقيقي نثري بلغة “الهانمون” في كوريا في الألف الأوّلى الذي قدّم لنا جزئياً نماذج من السّيرة الذّاتية، وهذا يؤكّد عناوين لم تصل إلينا من مؤلفات “كيم ديمون”، “كوسينجون” سيرة حياة أشهر المرشدين”، “كيربمتشابتشون” سيرة حياة مختلفة من مدينة كيريم”.

وعلى ما يبدو فإنّ النّقوش الرّسمية المكتوبة على الأحجار حافظت على وجودها إلى أيّامنا هذه، يبيّن المؤلفون: “أحدها نصب في عام 414 في ذكرى الحاكم “كوغوركفانغيتهوـ فان”، وأمّا الثّاني “تخوم القرنين الرّابع والخامس” فيوصّف مآثر “مودورو” حاكم “بويي” الشّمالي، ويعيد صياغة الحكايات الفلكلورية عبر هذه النّقوش بأسلوب التّقاليد التّاريخية للكونفوشيوسية التي كانت راسخة على ما يبدو في ذلك الزّمن”، ويضيفون: “أولى الأعمال التي وصلت إلينا نقوش التّماثيل الشّبيهة من حيث النّوع بالسّير الذّاتية الصّينية من تاريخ السّلالات الرّسمي، تبلورت في تلك الكتابات العائدة إلى أواسط الألف الأولى الخصال المعيارية للإنسان، وقد قسّم الفكر الكونفوشيوسي النّاس إلى أنماط رمزية مرتبطة بشكل أو بآخر بالمهمات التي يؤدّيها تجاه الأسرة والمجتمع”.

وفي تعريفهم بالشّعر الكوري، يقول المؤّلفون: “نما وتطوّر الشعر الكوري المبكر باللغة الكورية، وبلغة “الهانمون”، ويمثّل الشّعر باللغة الكورية خمسة وعشرون نصّاً حفظت إلى يومنا هذا وتحمل عنوان “الهيانغا”، وصلت إلينا في وقت متأخر نسبياً فوق تمثالين هما “جيتيي كيونيو” في القرن الحادي عشر و”سامغوكيوسا” المآثر المنسية للممالك الثّلاث”، إلى قولهم: “وفي مرحلة متأخرة من انتشار الهيانغا، نما وتطوّر شعر دنيوي باللغة الكورية، سلمت منه بضعة نماذج هي: “أغنية عن الهفاران تشوكتشي” و”أغنية عن الهفارانكيبها”، و”أغنية عن أشجار الأرز” وهي فيما يبدو مؤلّفات لكتّاب فرديين”.

وبتسلسل سهل وبسيط، يشرح المؤلّفون مع الأمثلة تطوّر هذا الشّعر في كلّ مرحلة من مراحل الّدولة، يقولون: “في عصر دولة “سيلا” الموحّدة، تطوّر الشّعر أيضاً بلغة “الهانمون”، وهذا مهّد السّبيل للتّأثّر بالشّعراء الصّينيين اللامعين في عصر “تان”، وكي لا يبدو حكّام “سيلا” الذين وحّدوا الدّول الكورية الثّلاث همجاً في نظر الجار القوي، اقتدوا بشعرهم معتمدين لغة “الهانمون”.

جنس أدبي آخر ظهر في القرن العاشر بعد أن تأسّست في كوريا دولة إقطاعية تُدعى “كوريو”، وأقامت عراً متينة مع إمبراطورية “سون” الصّينية، وهذا على حدّ تعبير المؤلفين وطّد موقع الأدب بلغة “الهانمون”، ويبيّنون: “من بين مؤلفات القرنين الحادي عشر والثّاني عشر، ظلّ الأثر النّثري “مدوّنات تاريخية عن الممالك الثّلاث” لمؤلّفه “كيم بوسيكي” بارزاً مدّة طويلة و”مسيرة حياة كيونيو” تنتمي إلى نمط سير الحياة الكاملة التي تتحدّث عن حياة الزّاهد منذ الولادة حتّى الممات، وهذه السّيرة تؤكّد مهارة المؤلّف الأدبية الفذّة، أيضاً على المستوى الرّفيع الذي وصل إليه النّثر الكوري في القرن الحادي عشر”.

تطوّر نهج تدوين التّاريخ الرّسمي، ففي كوريا مكتب يدعى “ديوان التّاريخ” ويضمّ منصب المشرف على تدوين تاريخ الدّولة، وأهمّ مؤلَّف في هذا المجال وضعه المربّي البارز “كيم بوسيك” الذي شغل المنصب في النّصف الأوّل من القرن الثّاني عشر، يقول المؤلفون: “المدوّنات التّأريخية والسّير الذّاتية هي الأكثر إمتاعاً في المشروع الأدبي، إذ إنّ في هذه الأقسام تكوّن بصورة نهائية نمط الإنسان المعياري الذي انتشر في الأدب الكوري خلال العصور الوسطى كلها”.

وفيما بين القرنين الثّاني والرّابع عشر الميلادي، تطوّر شكل جديد من النّثر بلغة “الهانمون” هو مؤلفات الصّيغ الصّغيرة الحجم “بيهسول”، ومؤلّفو الكثير منها كانوا شعراء مشهورين، بحسب المؤلفين، ومنهم “لي إينو” و”لي غيوبو”، يضيف المؤلّفون: “أمّا مؤلّفاتهم فكانت عبارة عن مجموعة من المنمنمات القصصية التي لا تحمل عنواناً ولا يمكن فصل إحداها عن الأخرى، وعادةً ما تكون مجموعة “البيهسول” مقبولة في حجمها، وأحياناً تكون أكبر من الكتب وهي متنوّعة في مضمونها، ويعكس هذا الأدب النّزعة العامّة للعصر، التي تبرز بين القرنين الثّاني عشر والرّابع عشر في محاولة تنقيح رؤية الكونفوشيوسية المعروفة باتّجاه الإنسان، وكثيراً ما يصوّر الإنسان في “بيهسول” كمشارك في مغامرة غير عادية، أو أنّه في تلك اللحظة وهو يتغزل بجمال الطبيعة ينظم الأشعار ويظلّ البطل شخصية تاريخية في حين تبقى صورته الفنّية كسابق عهدها مثالية، وأوّل مرّة يصبح المنظر الطّبيعي موضوعاً للتّصوير في النّثر الأدبي، لقد استرعت الطّبيعة اهتمام الأدب، ما دامت تلك الطّبيعة مثاليةً وجميلةً نسبياً، لكن مثل هذا المنظر مرتبط بالجغرافيا والتّوازن بين الموجودات”.

مع تطوّر أدب النّثر، بدأت الأجناس الفنّية بصفةٍ خاصّة تكتسب أهمّيتها أكثر، يقول المؤلفون: “أخذت هذه المؤلفات الفنّية الأدبية تستوعب الملامح الأساسية التي أثبتت نفسها في مرحلة التّأسيس مثلاً، ما من شكّ في أنّ القصّة الطّويلة والرّواية الكورية في العهد المتأخّر قد تأثرتا بمبادئ تطوير الإنسان وتطويع النثر الأدبي وفق “التأريخية” والتّهذيبية”.

في نهاية القرن الرابع عشر وحتى السادس عشر، ظهرت أجناس أدبية جديدة، وتغيّرت خصائص الصّيغ الموروثة، يقول المؤلفون: “يترسّخ دور البطل، ويتولّد الاهتمام بالأوضاع الحياتية، وتتشكل في الشّعر أجناس جديدة، “سيجو” ذو المقاطع الشّعرية الثّلاثة وقصائد “كاسا”، أمّا النّثر في القرنين الخامس والسّادس عشر، فتؤدّي الأجناس الأدبية ذات المواضيع دوراً كبيراً في النّثر الفنّي، ويظهر البطل المحلق غير الاعتيادي في ظروف حياتية مبتذلة، أو على العكس يصوّر النّاس العاديون في أجواء رفيعة المستوى، يعزلون على الرّوابط المعتادة، وكثيراً ما يولّد تصادم الأدنى بالأعلى تأثيراً كوميدياً، ومن أشهر كتاب النّثر في هذه المرحلة “سوغوجون” مؤلّف كتب “مذكّرات عن الخطاطين المشهورين” و”قصص سنوات السّلام ونعيمه” و”ملاحظات حول أشعار الشّعراء الكوريين” و”سونهيون” مؤلّف مجموعتين قصصيتين هما “القصص المختلفة لـ يونجي”، و”قصص يونتشهون في أثناء الاعتزال”.

“سيرهاك” اسم الحركة الفكرية التي نهضت في القرن الثّامن عشر الذي يعدّ مرحلة ازدهار الأدب الكوري، وجاءت نتيجة التّناقضات العميقة للإقطاع الكوري منذ قرن مضى، يبيّن المؤلّفون: “سعى أنصار الحركة إلى إدراك واقع حكومتهم، وإيجاد مخارج من المآزق الدّاخلية والسّياسية والاقتصادية، ففي أعمال “باك تشيفون” و”تشون ياغيون” تجلّت مفاهيم المسألة الفلّاحية، وأولوا اهتماماً كبيراً بالإصلاح التّعليمي، وكان أحد مراكز الجذب في الأوساط الأدبية والمتنوّرة سلالة “لي” وعلى رأسها “لي إيك” العالم الفذّ والمفكّر البارز والشّاعر الموهوب، مع ابن عمّه “لي يونهيو” القامة التي لا تقلّ عنه سمواً في تاريخ الأدب الكوري والفكر السياسي ـ الاجتماعي”.

أمّا الرّواية فظهرت في نهاية هذا القرن، ويعدّ مؤسّس هذا الجنس الأدبي “كيم مانونا” كاتب روايتي “تجوال السّيدة سا في الجنوب” و”حلم التّاسعة الغائم”، اللتين تركتا أثراً كبيراً في سائر النّثر الكوري الّلاحق، والذي عالج وراجع باستمرار المشكلات والقضايا التي أثارها “مانجونا” حول اختيارات الإنسان والصّراع بين تكريس نفسه لتنظيم المجتمع أو رفضه العمل الاجتماعي”.

ولم يكن القرن التّاسع عشر جيّداً بالنّسبة لسلالة “لي” التي اهتزت بصورة محسوسة، يبيّن المؤلفون: “بعد موت الملك “تشونجو” اشتدت النّزاعات الإقطاعية الدّاخلية، وأصاب الاضطهاد الكثير من المثقّفين الرّجعيين ذوي الاتّجاهات المحدّدة، بما في ذلك حركة “سيرهاك”، ولم يطرأ على الأدب تغيّرات جوهرية في النّصف الأوّل من هذا القرن، وصدرت مؤلّفات بلغة الـ”هانون” الأدبية وباللغة الكورية الحيّة، ولاقى شعر “الأربعة” وهم “لي دونمو” و”ليود يكون” و”باك تشيغ” و”لي سوغو” تطوّراً مطرداً، وكان من أكبر مفكّري وشعراء هذه الفترة “تشون ياغيون”، وكان موسوعي المعرفة، وهو صاحب أكثر من خمسين مجلداً تعالج أنواع العلوم والفلسفة وعلم الفلك وغيرها”.

الأمر اللافت في هذه المرحلة، هو وجود مؤلّفات من دون اسم، يبيّن المؤلّفون: “في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر أسماء جدّ قليلة، وفي الوقت نفسه انتشرت على نطاق واسع مؤلّفات لا تحمل اسماً، ومردّ ذلك بالدّرجة الأولى إلى تسلّط الرّجعية الإقطاعية في البلاد، كما سرت المقطوعات الشّعرية والقصص الطّويلة والقصيرة بنسخها المخطوطة بين أوساط الشّعب، ووجدت طريقها النّشيط بين العاملين البسطاء في المدن والقرى، وتمتّعت بجماهيرية واسعة المؤلّفات التي تتحدث عن نصيب الشّعب العامل المحزن وعن أعماله واهتماماته، أمّا الأصناف الشّعرية ففقدت تدريجياً معناها القديم وراحت ترجع أنغاماً قديمة، وفي مرحلة لاحقة، أجبرت الطبقة المثقّفة على إعادة تثمين القيم القومية، ومن بين الإرث الثّقافي الذي يشكّل الثّروة القومية الأصيلة برز كأهم المرتكزات الجوهرية، فكر أنصار السيرهاكية، والفكر المستمدّ خبرته من أفكار الثّورة اليابانية، وفكر المستنيرين الأوروبيين في القرن الثّامن عشر، وتولّدت في نهاية القرن التّاسع عشر وفي بداية القرن العشرين حركات تدعو إلى احترام الذّات القومية “كيمونغي أوندون”، وناضل ممثّلو التّنوير من أجل نشر العلوم والثّقافة الأوروبية التّقدمية، واعتقدوا بأنّ إقامة دولة مستقلة قوية لا يمكنها أن تتمّ إلّا بشرط ضروري وهو غرس ثقافة جديدة، لذا رفع متنورون شعار “التّطور للدّاخل والدّراسة للخارج”، ما يعني امتلاك الثّروة الثّقافية القومية”.

وتعدّ بداية القرن العشرين، المرحلة الأكثر نشاطاً في سياسة التّنوير، إذ بدأت تظهر الكثير من المنظّمات التّنويرية وأخذت تتسرّب إلى كوريا بعض مفاهيم المفكّرين الأوروبيين، بالدّرجة الأولى تعاليم “داروين” ونظريّات فلاسفة التّنوير الفرنسيين والمذهب الوضعي، وتمتّعت أعمال “روسو” و”سميث” و”سبنسر” بجماهيرية واسعة، أما الأدب الكوري فظهرت فيه كلّ الألوان الأدبية تقريباً، وظهرت بوادر الأدب الاجتماعي بوضوح في الشّعر، واحتلّت مكانة رائدة أغانٍ ذات طابع ونبرة تحريضية”.

ويضيف المؤلّفون: “في تلك المرحلة طرأ من جديد تطوّر في ميدان السّيرة الذّاتية ـ التّاريخية متمثّلة بالدّرجة الأولى بكتابة وتوصيف حياة الأبطال الأسطوريين السّالفين، التي أسهمت في تربية المشاعر الوطنية وتقوية الميول المعادية للإمبريالية لدى الجماهير، كما أنّ المؤلّفات الرّمزية المجازية اتّخذت وجهتها القومية بصورةٍ صريحةٍ وكانت غنيّة جدّاً بالأدب الكلاسيكي.. لقد بلغت الأعمال الإبداعية لكتّاب بداية القرن العشرين مرتبةً مهمّةً في تطوّر الأدب الكوري كمرحلة تحوّل من آداب العصور الوسطى إلى الأدب المعاصر”.