حلُّ الدولتين.. طرحٌ لإنقاذ “إسرائيل”
د. معن منيف سليمان
أثارت الحرب على غزّة هواجس المجتمع الدوليّ ومخاوف من احتمال انهيار مسار السلام في الشرق الأوسط القائم بشكلٍ خاصّ على “حلّ الدولتين”. ذلك أن مسؤولين إسرائيليين صرّحوا مؤخّراً بأن هذا الخيار لم يعُد قائماً، على الرغم من معارضة وتحذيرات أقرب حلفاء الكيان وفي مقدّمتهم الولايات المتحدة. وبما أن واشنطن لا تؤمن هي الأخرى بقيام دولة فلسطينية، لكنها تختلف مع تل أبيب في أسلوب تصفية القضية الفلسطينية، فإن طرح الرئيس الأمريكي “جو بايدن” مشروع حلّ الدولتين في هذا التوقيت بالذات ما هو إلا خدمة لمشروعه الانتخابي ومحاولة إنقاذ صديقه “نتنياهو” من مأزقه الكبير على أمل أن يقف كل منهما مع الآخر في محنة الانتخابات القادمة.
“حلّ الدولتين”، هو مصطلح تمّ تداوله لعقود، يشير إلى مسعى إنهاء النزاع بين الفلسطينيين والإسرائيليين عن طريق إنشاء دولة فلسطينية وأخرى إسرائيلية تتعايشان بسلام، وكانت فكرة انسحاب “إسرائيل” من المناطق التي احتلّتها في 1967 أساس حلّ الدولتين الذي أكّدته فيما بعد، اتفاقيات أوسلو 1993، لذلك، الكثير من السياسيين العرب والغربيين يؤكّدون اليوم ما أضحى يُعرف بـ”حلّ الدولتين” على حدود الرابع من حَزِيران عام 1967.
ودائماً ما تدعو حكومات وهيئات عالمية إلى تطبيق حلّ الدولتين، لمعالجة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بما في ذلك الولايات المتحدة والأمم المتحدة.
وبعد أن تجدّدت الحرب بين “إسرائيل” والفلسطينيين في غزّة، ارتفعت أصوات بضرورة التعجيل بحلّ الدولتين لوضع حدّ ينهي الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وفق النظرة المؤيّدة لهذا المسعى.
ومؤخّراً جدّدت واشنطن التزامها بإقامة دولة فلسطينية على الرّغم من الحرب التي يشنّها العدو الإسرائيلي على قطاع غزّة منذ السابع من تشرين الأول الماضي. وقال الرئيس الأمريكي: “مهما بلغت صعوبته، علينا أن نستمرّ في مواصلة السعي نحو إحلال السلام، علينا أن نواصل السعي نحو مسار يمكِّن “إسرائيل” والشعب الفلسطيني من العيش بأمان وكرامة وسلام”، وأضاف في ختام زيارته لـ”إسرائيل”: “بالنسبة لي، هذا يعني حلّ الدولتين”.
ولكن، وفي تحرّك مضاد لموقف واشنطن الداعي للمضي في خيار حلّ الدولتين بعد انتهاء الحرب على غزّة، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” وأعضاء حكومته رفضهم قيام دولة فلسطينية، وأن “إسرائيل” ليست متحمّسة لفكرة حلّ الدولتين.
وفي الحقيقة، يُفهم من مجمل تصريحات المسؤولين الإسرائيليين وغيرهم منذ بداية الحرب وربطها بالفلسفة التي يؤمن بها الاحتلال ويدعمه فيها الغرب، أن أيّاً من “إسرائيل” أو أمريكا أو الغرب الأوروبي لا يمكن أن يوافقوا على إنشاء دولة فلسطينية سواء كانت بسيادة كاملة أم بسيادة جزئية، و”نتنياهو” يكرّر هذا كل يوم منذ بداية الحرب عندما يقول: “أوسلو كانت غلطة كبرى”، بل إنه قال ذات مرّة إنها “كارثة”!.
ومن يقرأ أدبيات الاحتلال وفكره يستطيع أن يخرج بيقين كامل بأن فكر “إسرائيل” لا يمكن أن يؤمن بالسلام مع الفلسطينيين ولا مع عموم العرب، ولذلك فإن أيّ ميول إسرائيلية أو غربية تجاه حلّ الدولتين لم تكن في يوم من الأيام إلا لضمان المواقف العربية في قضايا لا علاقة لها بفلسطين أبداً، لأن ذهاب اعتراف الاحتلال الإسرائيلي بدولة فلسطينية يعني وفق فكر “إسرائيل” الديني أو الفكر الصهيوني فقدان “إسرائيل” شرعيتها؛ لأن الاحتلال الإسرائيلي يقوم على فكرة إحلال “إسرائيل” محل فلسطين، وتهجير الفلسطينيين إلى خارج فلسطين، حسبما ورد في النصوص التوراتية التي تعدّ الأساس الديني الذي يستند إليه الصهاينة في فكرة قيام “إسرائيل”.
إن قبول “إسرائيل” لمقترح حلّ الدولتين في الصراع مع فلسطين يعني نهاية قوتها وبداية انهيارها، وهي تدرك هذه الحقيقة جيداً، ولهذا السبب تسعى إلى تهويد القدس ومحيطها، وبناء المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية. وهذا ما يجعل العودة إلى حدود ما قبل الرابع من حَزِيران عام 1967، أمراً مستحيلاً على أرض الواقع. وفي هذا السياق نقلت القناة 14 الإسرائيلية عن عضو مجلس الحرب “جدعون ساعر” قوله: “إن إقامة الدولة الفلسطينية خطر على إسرائيل”.
والحكومة الإسرائيلية الحالية هي أكثر الحكومات تطرّفاً في تاريخ “إسرائيل”، وهي لا تريد حلّ الدولتين. وإن رئيسها “نتنياهو” ليس مستعدّاً لقبول حكم ذاتي فلسطيني، ولو وهميّاً، فكما قال قبل إطلاقه حرب الإبادة على غزّة وبعده: إن لـ”إسرائيل” الحق في كل ما يقع بين نهر الأردن والبحر، ولا تخلّي عن شبر منها، فهو يرى الاعتراف بكيان فلسطيني، حتى تحت سيطرته، خطراً على “إسرائيل”، ويعي أن المقاومة، بأشكالها المتعدّدة، ستستمرّ، إلا إذا جرى القضاء عليها ومعاقبة الفلسطينيين بقسوةٍ بالغة، فحرب الإبادة الحالية ليست أداة انتقام فحسب، بل حرب تطهير عرقي لتثبيت هوية “إسرائيل” وإلغاء الهوية الفلسطينية، فـ”إسرائيل” غير معنيّة بحلول، حتّى لو كانت لمصلحتها، فهي تريد دولة واحدة يخضع الجميع للنظام الذي هو نظام فصل عنصري، لا يهدف إلى التمييز العنصري فقط، بل أيضاً إلى استخدامه أداة للتضييق على الفلسطينيين تمهيداً لتهجيرهم.
وتعيش الولايات المتحدة و”إسرائيل” حالة من التخبّط في التصريحات على مستوى القيادة العليا تكشف عن حجم المأزق الذي يعيشه الكيان ومحاولات الغرب والولايات المتحدة بالذات انتشال “إسرائيل” ورئيس وزرائها من مأزقهم الكبير.
ففي الوقت الذي يصّرح فيه “نتنياهو” بشكل يومي ويؤكّد أن دولة فلسطينية لا يمكن أن تنشأ وهو موجود في السلطة، يصرّح الرئيس الأمريكي بأنه “ناقش مسألة حلّ الدولتين مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، وأن الأخير لم يعترض على هذا الحل”. لكن بايدن قال: إن “هناك عدداً من الأنماط لحلّ الدولتين”، مشيراً إلى أن “دولاً عدّة في الأمم المتحدة ليس لديها قوّات مسلّحة خاصّة بها”، وأشار إلى أن هذا “الحلّ ليس مستحيلاً بوجود نتنياهو في السلطة”.
إن التحوّل الجذري بين جيل الشباب في أمريكا والغرب في تبنّي الرواية الإسرائيلية، يثير قلق واشنطن التي تعدّه خطراً على “إسرائيل”، بينما يتعامل “نتنياهو” باستهتار مع هذه التحوّلات. وعليه، يجب فهم طرح حلّ الدولتين بوصفه مشروع إنقاذٍ لـ”إسرائيل”، وخصوصاً أن إدارة “بايدن” لم تحاول أن تطرح تصوّراً للحل، وعملت على احتواء الصراع، لأنها اعتمدَت على إمكان نجاح مشروع التطبيع الشامل في إنهاء الصراع أو إلغائه وطيّ ملف القضية الفلسطينية بعد الخرق الاستراتيجي بتوقيع الاتفاقيات الإبراهيمية بين “إسرائيل” والإمارات، وبعدها البحرين والمغرب، للتمهيد لحلٍّ نهائي يتجاوز الفلسطينيين بعد تهميشهم وعزلهم.
وفي هذا السياق تتوافق “إسرائيل” مع أمريكا. ولكن الفرق أن “نتنياهو” يريد من أمريكا فرض ذلك على الدول العربية من دون أيّ استعداد لتخفيف وتيرة العدوان، أو لجم المستوطنين في الضفّة الغربية، أو استعداد للتصريح بقبول دولة فلسطينية، فواشنطن لا تؤمن بدولة فلسطينية مستقلّة أساساً.