“حكايات حارة المؤيد” بين الخيال والواقع
أمينة عباس
قليلة هي الكتب والإصدارات التي تقدم للقارئ ما هو مختلف وجديد، وعندما توجد لا يتردد أحد في قراءتها والتعبير عن إعجابه بها، ومن هذه الكتب القليلة رواية “حكايات حارة المؤيد” للكاتب والإعلامي عماد نداف، وهي رواية تضمنت بحثاً روائياً جدياً وعميقاً ينهل من الأحداث الحقيقية تارة ومن الحكايات والخيال تارة أخرى لتكون بمنزلة الطعم للقارئ لينال متعته منها، وبدا واضحاً لمن يتابع كتابات نداف أنه وضع نصب عينيه دمشق التي يحبها لتكون محور أعماله الكتابية القادمة راغباً في الغوص بحكاياتها، فبعد أن صعد إلى جبل قاسيون واستحضر قصصه في “اذكريني دائماً” لم يبتعد عنه كثيراً، فرصد قلمه حارة المؤيد وهي حارة قديمة من حارات منطقة الجسر الأبيض التي تقع في الطريق إلى قمة جبل قاسيون ليقصّ على القارئ حكايات يختلط الحقيقي فيها بما هو خيال لتكون الأحداث السياسية التي عاشتها دمشق في خمسينيات وستينيات القرن الماضي البساط الذي يفرد عليه تلك الحكايات ليحاكي وقائع هذه المدينة التاريخيّة العظيمة ومنعطفاتها التاريخية ضمن خطة يعمل على تنفيذها بوعي وإصرار، ليقدم في النهاية مشروعاً متكاملاً عن هذه المدينة التي يعشقها، من هنا كان احتفاء المركز الثقافي العربي بالعدوي، مؤخراً، بروايته “حكايات حارة المؤيد.. الجن والعاشقات” الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب، من خلال الندوة التي أقامها، وشارك فيها الناقد أحمد هلال والشاعر غدير إسماعيل وبحضور عدد كبير من الكتاب والنقاد والمهتمين.
لم تنته الرواية
لم يخفِ نداف أنه استغرق عشر سنوات لإنجاز هذه الرواية التي تردّد كثيراً في نشرها، خوفاً من ألا يقدم فيها شيئاً مختلفاً وجديداً وهو الذي أراد أن تكون منجزاً مهماً يقدمه للساحة الثقافيّة، وقد وجد أنه من الضروري أن تكون محطة من مجموعة محطات توقَّفَ وسيتوقف عندها ليستكمل الرواية عن دمشق وما تختزنه من حكايات، كالجزء الثاني منها الذي يحمل عنوان “الجبل الأحدب” عن جبل قاسيون و”حديقة البوم” عن دمشق في عهد السراج.
الشام واسطة العقد
وأشار الناقد أحمد هلال في حديثه إلى أن سرد الرواية الشيّقة ينفتح على أزمنة وأمكنة محلومة لتشكل الشام واسطة العقد ودرة تاج السرد، ليس باختزالها بحارة المؤيد وقصره الذي استغرق ذاكرتنا في التفكير بمن يسكنه وهل سكنه الجن فعلاً، إلى الحد الذي دارت حوله أقاويل وأساطير وحكايات تتناسل لتكون رواية الكاتب نداف بعنوانها اللامع بمثابة أطلس لغوي مكاني، لكنه الأكثر انشداداً إلى تجليات المكان القابل للتحول، فهو ليس مكاناً طارئاً، بل هو الذاكرة أبداً عبر وحدات سرديّة بعنوانات متّصلة منفصلة حجرها الأساس وخيط سردها الذّهبي ما يبدأ من غرفة العناية المشدّدة والتي تأخذنا إلى مونولوج شخصيّة “فادي عبد الرحمن” الغارق في الهذيان بموازاة أحداث سورية الكبرى منذ الاستقلال إلى ما بعد الاستقلال مع تناسل الشخصيّات وحكاياتها وأزمنتها عبر المتخيّل وبنيته الفنيّة وتعدد الأشكال الحواريّة والعلائق الأيديولوجية بين الشخصيّات وعناية الكاتب الفائفة بالتفاصيل والجزئيّات، انطلاقاً من العنوان المطابق لمكان الرّواية، سواء أكانت هذه المطابقة مجازية أم حقيقية، مبيناً أن نداف -مع ما يجري في قصر المؤيد في الجسر الأبيض وما حوله من حكايات للعائلات التي تسكن في الحارة- يستعير قلم الصّحفي المؤرخ ليكتب تاريخها من خلال ما يدونه في دفتره أبو صلاح أحد سكّان هذه الحارة المعادل لشخصيّة البدير الحلاق الذي كان يدون أحداث دمشق ويومياتها، فيما سيختلط زمن الهذيان بزمن الوقائع التي سترتبط بمنازل عائلات دمشقية عدة لتتدفق حكاياتها في مجرى السرد بامتزاج الواقع بالخيال في الحديث عن الجن الذي سكن بيت الدكتور خالد المؤيد.
أحداث شامية
وعبّر الشاعر غدير إسماعيل عن إعجابه الشديد بالرواية، واصفاً إياها بالمشوقة التي تشدّ القارئ إليها من خلال توثيقها المتخَيَّل لأحداث شاميّة بامتياز فتسحبه إليها لكيلا ينتهي منها من خلال توثيقها المُتخيّل لأحداثٍ شاميّة عرفناها طرح من خلالها الكاتب الأسئلة من دون أن يجيب عليها، تاركاً للقارئ المجال كله لطرح مزيد من الأسئلة، معترفاً بأن العقل الشرقي متعلّق بالخرافة التي تعاظمت في تلك الحارة وأوصلتْها لمرحلة أفقدتها أصالتها، لكن الرواية وإن حملت عنوان “حكايات حارة المؤيد.. الجن والعاشقات” ليست رواية جن ولا رواية رومانسية وقد كان الجن والحب حاملين للحديث عن أحداث سياسية من خلال شخصيّات ثانويّة أتت مكملة للحدث الروائي الذي هو حلم الكاتب بالتعددية السياسيّة، وأى إسماعيل أن الكاتب كان في روايته أبعد ما يكون عن اللغة الشعريّة، فلغته عربيّة بسيطة قريبة للغة الشّارع وهي وإن مرّتْ مرور الكرام أحياناً فقد لجأ إليها عند الضرورة وخصوصاً في لحظات العشق، فلولا إدخاله لعناصر درامية عشقية لما كان احتاج إلى هذه اللغة أصلاً، مع إشارته إلى أن الرواية لم تخلُ من بعض اللّمحات السّاخرة وتداخل أزمنتها في بدايتها بين الحاضر والماضي المروي أو المسترجع، في حين برزت شخصيّة الكاتب مستترة من خلال أسئلته المواربة.
حالة فريدة
وبيّنت مديرة الندوة نغم عليا أن الرواية تحدّثت عن دمشق بكل دلالاتها الثّقافيّة والفكريّة والتراثيّة والاجتماعيّة، لتعكس عبر نص رّوائي وهجاً معشقاً لذاكرة وأحداث نسجها الكاتب بشفافية وجمال بمعادلة صعبة لبثّ رسائل كثيرة ومهمة تحكي عن عظمة دمشق وعراقتها وتاريخها وقيمها وأخلاقها وموروثاتها فحارة المؤيد وإن كانت حارة دمشقيّة لكنها تمثّل سورية، وكأن الكاتب في الرواية برأيها كان سفيراً لسورية عبر كل الصور التي أجاد التعبير فيها عن شعب وأمكنة، فقدم حالة فريدة للمشهد الثّقافي رصد من خلالها كلّ التحولات في تاريخ دمشق وبأزمنة متضاربة بدءاً من الخمسينيات، فكانت الرواية تتحرك ضمن مجموعة من التفاصيل والشخصيّات التي تمثّل كافة أطياف المجتمع الدّمشقي التي تتنازعها الأفكار والمعتقدات والمواقف المترتّبة على أحداث ضمن معادلة صعبة أدارها الكاتب بذكاء، لذلك فإن الرواية برأيها ليست حكاية، إذ تقول: “الحكاية ترويها جدتي وهي مليئة بالمتعة، والرواية عمل مبني فما كُتِب لا يعنينا بمفهومه ويجب أن نبحث فيها عمّا هو أعمق”، منوهة بأنّ الشخصيات متوائمة فكرياً وقد أجاد الكاتب في جعل كل شخصية تتكلم بلسان حالها، فلم يجعل المثقف يتكلّم بلغة الشارع، ولم يخرج المثقف من جلدته، معترفة بأن أكثر ما أعجبها في الرواية أن روح نداف الصحفي والسيناريست والمصور قد تجلت في التقاط تفاصيل دمشق التراثيّة الجماليّة التي تؤكد أن الرواية قصة حبه لسورية وكأنه يقول من خلالها: “هنا تشرق الشمس، والقصة ستستمر، وسورية ستبقى”.