نقاش وتنظير.. عشرات الورشات والندوات بلا جدوى ومقترحاتها غير قابلة للتنفيذ!
لكلّ فعالية اقتصادية هدف أو أكثر، وإلّا تحولت إلى جدل بيزنطي واستعراض لقدرات المشاركين النظرية أمام الحضور والمسؤولين، وهذه حال معظم الفعاليات والندوات والورشات الاقتصادية التي أقيمت خلال الأعوام الأخيرة.
سؤال لا بدّ من طرحه هنا: ما جدوى أيّ فعالية إن لم تخرج بمقترحات قابلة للتنفيذ سواء تبنّتها الحكومة أم تجاهلتها؟!
غالباً ما تنتهي الفعاليات بلا جدوى، وكأنّها لم تكن، حتى المؤتمرات التي تعقد بحضور الحكومة، يكثر فيها النقاش والمطالبات، والانتقادات، تعقبها ردود المسؤولين التبريرية من قبيل: هذه إمكاناتنا المتاحة، وما من طرق لحلّ الأوضاع المعيشية للناس!.
وفي هذا السياق نسأل أيضاً: ماذا كان هدف التنظيم العمالي من إقامة ورشة حول الرواتب والأجور، مادامت آفاق حلّها ومعالجة أسبابها تكاد تكون مستحيلة في الأمد المنظور؟.
ما علاقة الرواتب بتعريف دور الدولة؟
لم نكن نتوقع أن يكون لدى المشاركين في ورشة التنظيم العمالي أيّ طروحات أو أفكار يمكنها إخراجنا من مأزق أو معضلة الرواتب والأجور، التي تحوّلت بفعل ضآلتها إلى أقل من الإعانات التي تتلقاها بعض الأسر من الجمعيات الخيرية!
وأمام انسداد الأفق كان من الطبيعي أن يُشغلنا غالبية المشاركين بمقترحات وطروحات لا واقعية، ولا شبيه لها في أي دولة تعاني مثلنا من تدهور رواتب عمالها وانخفاض إنتاجها، واعتمادها على الاستيراد لا على التصنيع الوطني.
الكلّ يعرف بأن الرواتب والأجور منخفضة، ولكن هل السبب، كما رأى بعض المنظّرين، يعود لسياسة التوظيف الاجتماعي، أم لعدم منح العاملين أجراً مناسباً أقله خلال العقد الأخير فقط؟!
بصراحة، لم نستوعب ما طرحه البعض حول علاقة الرواتب والأجور بإعادة تعريف دور الدولة، فإذا كان الدستور نصّ على منح العاملين أجراً يكفي الحدّ الأدنى لمتطلبات المعيشة المتغيّرة، فما علاقة تعريفنا لدور الدولة بمنح العاملين أجراً كافياً ووافياً مثل سائر دول العالم.
وإذا أردنا مقارنة واقعية، فسنكتشف أن وضع العاملين في حقبة قيادة القطاع العام للاقتصاد الوطني كانت أفضل بكثير من حقبة تطبيق نهج اقتصاد السوق منذ عام 2005.
الكل أخفق
ويبدو أن من طرح موضوع “السبل الكفيلة بتحقيق التوازن بين الرواتب وتكاليف المعيشة” لا يعرف أن هذا الموضوع قديم جداً ويعود إلى نهاية ثمانينيات القرن الماضي، أيّ بعد حدوث عدة تعديلات لسعر صرف الليرة أدّت إلى انخفاض القدرة الشرائية للرواتب والأجور، حينها شكّلت الحكومة، بطلب من التنظيم العمالي، لجنة برئاسة نائبها الاقتصادي مهمتها إعادة التوازن بين الرواتب والأجور، لكن هذه اللجنة بالكاد اجتمعت مرة واحدة فقط، لأن حكومة تسعينيات القرن الماضي لم تكن جادة بزيادة القدرة الشرائية للعاملين بأجر لتناسب الزيادات المتتالية في الأسعار!
وإذا كان راتب العامل لا يقلّ عن 150 دولاراً في تسعينيات القرن الماضي، فماذا يقال عن راتب اليوم بعدما انخفض إلى ما دون الـ 20 دولاراً؟ فعلياً، لم يكشف لنا أيّ منظّر أو أكثر عن السبل الكفيلة بتحقيق التوازن بين الرواتب وتكاليف المعيشة، وكأنّنا وصلنا إلى طريق مسدود، فالكل يُتقن وصف الداء، لكنه يخفق بوصف العلاج!.
ليس حكراً على سورية
أما أغرب ما طرحه المنظّرون في ورشة التنظيم العمالي فهو المطالبة بإنهاء الدور الأبوي للدولة “لأنه لا توجد دولة في العالم تعلّم أبناءها 20 سنة مجاناً”، وهذا الكلام غير صحيح أبداً، فالتعليم المجاني ليس حكراً على سورية، بل هو موجود في كلّ الدول، سواء الرأسمالية أم الاشتراكية أو “الحرة”، وهو موجود مثلاً في لبنان منذ خمسينيات القرن الماضي.
وكما قلنا مراراً، التعليم المجاني للسوريين، وإلزاميته في المرحلة الأساسية، ليس دعماً ولا منّة، بل هو استثمار في التنمية الاقتصادية، وكان أحد الإنجازات الكبرى لحزب البعث العربي الاشتراكي، فقد كان التعليم في سورية للنخبة فقط، وليس لعموم السوريين، ولولا مجانية التعليم لما تمكّنت سورية من رفد الدولة بعشرات الآلاف من الأطباء والمهندسين والمحامين والاقتصاديين والصيادلة والكيميائيين.. الخ.
أكثر من ذلك، بعض الدول لا تكتفي بالتعليم المجاني، بل تمنح أسرة الطلاب راتباً شهرياً يكفي مصروفه اليومي كي لا يشكل عبئاً على أهله!
تصوّروا لو أن التعليم في المرحلة الجامعية مأجور، فكم عدد الطلاب القادرين على متابعة دراستهم العليا؟ ومن الخاسر في هذه الحالة سوى الدولة والمجتمع والاقتصاد الوطني؟ إنه فعلاً طرح غريب ومريب؟!!
لا غنى عن الدور الأبوي للدولة
وحسناً فعلت القيادات العمالية بتفنيدها لمصطلح “التوظيف الاجتماعي” بتأكيدها: “نحن لا نرى وجوداً لتوظيف اجتماعي في القطاع العام، لأن عمالنا يعملون أحياناً 12 ساعة متواصلة، ولا أحد من العاملين في الدولة يعمل براتبه.. والدور الأبوي للدولة موجود في أغلب دول العالم”.
وكلنا يتابع تدخل الدولة في العالم الرأسمالي عند نشوب الأزمات المالية والاقتصادية والكوارث.. الخ، ومن أبرز مظاهر التدخل التشريعات التي تلزم أرباب العمل بمنح رواتب تزيد عن حاجة العاملين، وراتب بطالة للمتعطلين.. الخ.
وبدلاً من اقتراحات تعيد عجلات الإنتاج لمنشآت القطاع العام بما يتيح زيادة النمو والتصدير، وتحسين الوضع المعيشي للعمال، طالعنا البعض بطروحات لتقليص دور الدولة في الاقتصاد أكثر فأكثر، وهذا الدور أساساً تراجع منذ عام 2005 على الأقل مع بدايات نهج اقتصاد السوق الليبرالي!.
قرارات أثّرت على سلة الاستهلاك
ونستنتج من مداخلة الدكتور عابد فضلية أن ما من أحد يتحدث “عن الأسباب التي أدّت إلى ما نحن فيه، ولم ندرس الفرق بين الأجور الاسمية والفعلية التي يشكل التضخم الفرق بينها”!
وبحسب الدكتور فضلية، وهو محق تماماً، فإن “القرارات التي تصدر أسبوعياً كل منها “ألعن من الثاني” إذ تركت آثاراً سلبية على القطاعات الإنتاجية، حيث زادت أسعار الأسمدة عدة مرات، وهذا سيؤدي لزيادة تكاليف الإنتاج الزراعي والصناعات التحويلية المرتبطة به، وكلنا يعرف أن المنتجات الزراعية والصناعة تشكل 70 بالمئة من سلة احتياجات الاستهلاك”.
نعم.. المشكلة ليست بالدور الأبوي للدولة، ولا بالدعم، ولا بالرعاية.. الخ، وإنما المشكلة التي تسبّبت بوصول الأوضاع المعيشية لملايين السوريين إلى مستوى الفقر والعوز هو قرارات الحكومات المتعاقبة التي بدأت خجولة في تسعينيات القرن الماضي، ووصلت إلى ذروتها في النصف الثاني من العقد الأول من هذا القرن، وهي تخلّي الدولة عن أبوتها ودعمها ورعايتها، والأخطر تخليها عن القطاع العام.. الخ.
ويبدو أن بعض المنظّرين لم يستوعب أن الدور الأبوي والرعوي للدولة أنهته عملياً حكومة (2003 – 2010)، واستمرت فيه الحكومات المتعاقبة منذ عام 2011، أما ما يتعلّق بمجانية التعليم والطبابة، فمن المريب المطالبة بإلغائها وهي موجودة في كل دول العالم الرأسمالية.
الخلاصة..
لو كان التنظيم العمالي جاداً في التوصل إلى مقترحات فعّالة لزيادة دخل ملايين العاملين بأجر، من خلال استثمار إمكانات الدولة المعطلة، لقام بطرح المشكلة في مجلس الشعب لا في ورشة نتائجها غير مجدية، ولطالب بتشكيل لجنة موسّعة تعدّ تقريراً مفصلاً عن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في سورية مع توصيات قابلة للتنفيذ، يُناقش ويُقرّ في جلسات مجلس الشعب بحضور الحكومة، بل وبترجمة بعض المقترحات بقوانين ملزمة للحكومة.
علي عبود