تكريماً له.. “شيبلا” تحتفي بآخر ما خطّه ناظم مهنا
أمينة عباس
تكريماً له، وفي ذكراه السنويّة الأولى، احتفى المركز الثقافي في أبو رمانة بالتعاون مع دار “شيبلا”، مؤخراً، بصدور آخر ما خطته يد الأديب ناظم مهنا “أرواح نيئة في جرار الفخار”، ولم يكن غريباً ذلك الحضور الكبير من الأدباء والمثقفين والإعلاميين ومحبيه الذين صدمهم رحيله المبكر، فعدا عن كونه مُثقّفاً من الطراز الرفيع، وتجربته القصصية من أهم التجارب القصصية السورية والعربية الحديثة كان من الصعب على كل من يلتقيه ولو بشكل عابر إلا أن يقف مدهوشاً من طيبته ولطفه وإنسانيته وصفاء سريرته ودفء مشاعره، وبيَّنت الكاتبة والناقدة الدكتورة علا الجبر رئيس هيئة التحرير في الدار في تصريحها لـ”البعث” أنّ الدّار أرادت أن تضع بين أيدي القرّاء آخر ما خطّته يدا ناظم مهنا، وهي سرديات نصف غنائية كما أحبّ أن يسميها، وقد أغنى الأدب السوري من خلالها بصور وسرديات تمثل واقعنا وهويتنا، لذلك حرصت الدار على الحصول على المخطوط وطباعته ونشره وإهدائه لروحه.
ظاهرة إبداعيّة
ورأت أستاذة النقد العربي الحديث في جامعة دمشق الدكتورة ماجدة حمود أن ناظم مهنا أحد المثقفين القلائل الذين ترهبوا في محراب الكلمة المبدعة، فقدّموا حياتهم أمثولة لثقافة تبني الإنسان وتزرع في داخله بذرة التحدي في كل المجالات، وقد كانت الكتابة لديه لغة انتماء للوطن مثلما كانت لغة انتماء إلى إنسان يحلم بالتغيير والنهضة، لهذا تميّز خطابه بالانفتاح على الآخر أياً كانت هويته أو معتقده، وهو الذي رفض الانتماءات الضيّقة، لذلك لم تكن حياة ناظم مهنا ـ برأي حمود- عبثاً وهو الذي أسهم في صنع ثقافة تبني وعياً جديداً وذائقة مرهفة في بلادنا، مؤكدة أنه شكّل ظاهرة إبداعيّة نادرة حين رفض أن تتغلغل الثقافة في حياته وفكره فقط وقد أراد لها أن تكون جزءاً من يومياته، وقد كان أحد الحالمين بأن يسهم الإبداع العربي والفكر في النهضة، وأضافت حمود: “حين التقيتُ به أول مرة بعد تعيينه رئيساً لتحرير مجلة “المعرفة” التي استمرّ في رئاسة تحريرها حوالي سبع سنوات والتي تعمّد أن تكون في معظمها مترجمة من منتجات إبداعيّة عالميّة صدرتْ في القرن الماضي ليفتح نوافذ المبدعين العرب بأجيالهم أفصح عن رغبته في التأسيس للحداثة عبر هذا المنبر، فدعا كل من يعرفه من المثقفين إلى الإسهام معه لإدراكه أن يداً واحدة لن تصفّق، وأن أي فكر نهضوي لن يتجلى إلا عبر عمل جماعي، لهذا دأب على لفت النظر إلى كل من يقدّم إبداعاً حداثياً متميزاً في الكتابة والترجمة، وقد كانت الحداثة مشروع حياته، وباتت مع مرور الأيام هاجساً يؤرّقه حتى يكاد يعيش من أجله، لذلك لم يرضَ التمسك بأمنيات حالمة أو المتاجرة بشعارات رنانة وإنما سعى إلى الفعل لتحقيق حلمه النهضوي، فوهب نفسه لثقافة كان يأمل أن تؤسس حياة أفضل للمتلقي، فشمّر عن ساعد العمل ليسخّر من أجلها عمره وموهبته الإبداعيّة والفكريّة، وظلّ يحلم بها حتى النفس الأخير، فكان أحد الحالمين وباحثاً متميزاً عما يصنع الجمال في هذا العالم المظلم، وما يُسجل له في منتخباته لمجلة المعرفة أنه كان يختار نصوصاً نثريّة تراثيّة عربيّة، فكان من أولئك الذين لفتوا النظر إلى المعنى الواسع للحداثة الذي لن يكون بمعزل عن المنجز الذي أبدعه التراث في الفكر الفلسفي والأجناس الأدبيّة، لهذا انفتح عليه مثلما انفتح على التراث العربي”، وختمت حمود كلمتها بتأكيد ترفع ناظم مهنا في حياته عن سفاسف الثرثارين ممّن يضيعون جهودهم في عرقلة إبداع الآخرين ومنعهم من تقديم ما ينفع الناس، فقد كان همّه العمل على تقديم ما هو متميز، وكان شغفه تعريف المتلقي بما هو ممتع ومفيد.
جذور غارقة في الأرض
وبيّنت السيدة لبيبة صالح زوجة الراحل أن الحديث عن ناظم مهنا يعني التجوّل في غابة عريقة ذات جذور غارقة في الأرض التي أحبها وتشبّث بها، فكانت جذوره راسخة في قريته، لذلك رفض الاغتراب، بينما كانت تصبو روحه إلى الفضاءات الرحيبة، مشيرة إلى أنه اكتسب ملامح شخصيته من هذه الأرض، فكان كرمه وسخاؤه ووضوحه وبساطته وتسامحه اللامحدود، وقد أسماه والده ناظم تيمّناً بالشاعر ناظم حكمت، منوهة بأنه كان يمتلك قدرة اختلاق المرح والنكتة والدعوة إلى الفرح والابتعاد عن الحزن والكآبة، وحين كان يغلبه الحزن كانت تترقرق دمعة من عينيه وتتدحرج، فيمسحها بهدوء ويلجأ إلى معالجة حزنه إلى قراءة الشعر، وكان يخاطب بناته قائلاً: “يا بناتي، أحبّوا الشعر، فهو دم آبائكم وأجدادكم”. وختمت صالح كلامها قائلة: “سافرتَ وحيداً مبتسماً هنيئاً لتلقي التحية في كل صباح على أناس قريتك التي تحب، تاركاً في ذاك البيت المعتم الذي طالما أضأتَه بسطوع نورك ثلاث زهرات يرتجفن من الخوف، وجرحاً لا يندمل ولا يبلسمه سوى كتاباتك التي لن تنتهي”.
غياب بلا سؤال
لخّص منير خلف عضو المكتب التنفيذي في اتحاد الكتّاب العرب ورئيس تحرير مجلة “الفيحاء” في قصيدة الرثاء التي ألقاها صدمة رحيل ناظم مهنا المبكر على عائلته: “كيف غادر في الصباح بلا وداع، كيف غاب ولم يعد، كيف الطريق أتاه من دون إشارة لرحيله غير ارتماء الكوب منكسراً، بغير عادته مضى مستدركاً معنى الغياب بلا سؤال”.
ثقافة واسعة
وبيَّن الدكتور وائل بركات في تصريحه لـ”البعث” أن أهم ما كان يميّز ناظم مهنا الكاتب هو ثقافته الواسعة والغنية التي كان يوظفها دائماً في كتاباته بذكاء ومعرفة عالية المستوى وقدرة على لفت الانتباه إلى الأدب الغربي وأمور تاريخية ومعاصرة مهمة لذلك كانت كتابات مختلفة، شاكراً بركات دار “شيبلا” على إصدارها لكتابه “أرواح نيئة في جرار الفخار”، مع تأكيده أن ناظم مهنا الموجود في الذاكرة يستحق دائماً أن يكون حاضراً في التكريمات والدراسات.
كما أكد الشاعر الدكتور نزار بريك هنيدي أن الراحل كان قارئاً نهماً للأعمال الأدبية والفكرية والفلسفية على تنوعها، إلى درجة قلّ أن نجد مثيلاً لها عند الغالبية العظمى من المثقفين أو الأدباء أو الأكاديميين في هذه الأيام والتي تجلّت بشكل واضح في افتتاحياته المتميزة لمجلة المعرفة، وفي الكثير من المقالات الفكرية والنقدية التي كان ينشرها، أما إبداعه الأدبي فهو برأي هنيدي يحتاج إلى الكثير من الدراسة لإيضاح ما قدمه من خصوصية لفن القصة القصيرة الذي كان يعشقه واستطاع أن ينجز فيه الكثير من الأعمال المبهرة التي تحمل بصمته الخاصة، وكذلك أعماله الشعرية التي حملت سمات روحه التواقة إلى الغوص في أعماق التاريخ وتوحيد الزمن والبحث عن الحق والجمال.
الطرف الآخر للرمل
ولِد ناظم مهنا في مدينة جبلة عام 1960 وبدأ بكتابة الشعر في سن مبكرة، ثم تسلل إلى القصة ونشر أول قصة له عام 1979 في مجلة “الثقافة” لصاحبها الشاعر مدحت عكاش، ثم بدأ النشر في الصحف اللبنانية منذ مطلع الثمانينيات، ودرس اللغة العربية في جامعة دمشق، وشغل منصب رئيس تحرير مجلة “المعرفة” التي تصدرها وزارة الثقافة منذ العام 2015 وصدر له عدد من المجموعات القصصية، منها: “الأرض القديمة- منازل صفراء ضاحكة– حراس العالم– مملكة التلال” وكتاب “بابل الجديدة” وهو عبارة عن مقالات متنوعة في الثقافة والأدب، وكتيّبان عن الشاعرين الراحلين ممدوح عدوان ومحمد الماغوط ضمن سلسلة “أعلام مبدعون” الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب، وله ديوان شعري بعنوان “الطرف الآخر للرمل” ضم قصيدة واحدة تناول فيها التحولات العربية الكبيرة وعدداً من التناقضات التي تعيشها المجتمعات العربية، ووصف النقاد مجموعته القصصية “الأرض القديمة” الصادرة عام 1997 ببيضة الديك وقد نالت اهتماماً كبيراً من الصحافة الثقافية، وكتب مهنا للأطفال قصصاً وسيناريوهات في مجلة “أسامة” وتمثيليات إذاعية تجاوز عددها 150 وصدر له كتيّب صاغ فيه ملحمة جلجامش بشكل مبسط، وكان يرى أن كتابته للأطفال نوع من التحدي الشخصي بالنسبة له.
يُذكر أن الحفل الذي قدمته نغم حامد وقرأت فيه قصتين من كتاب “أرواح نيئة في جرار الفخار” تضمَّن عرض فيلم وثائقي يلخص مسيرة حياة ناظم مهنا إلى جانب فقرة موسيقيّة من تقديم كورال شيبلا، واختتم الحفل بتوقيع الكتاب من قبل زوجة الراحل.