دراساتصحيفة البعث

المحور الفرنسي الألماني ومحاولة معالجة الأزمات الحالية في أوروبا

عناية ناصر

زار رئيس الوزراء الفرنسي الجديد غابرييل أتال، برلين مؤخراً، في أول زيارة خارجية له بعد تولّيه منصبه. وقد ركّزت الزيارة على أكثر من مجرد تعزيز العلاقات الفرنسية الألمانية، حيث قال المتحدث باسم المستشار الألماني: إن المحادثات ستركّز على “القضايا الثنائية والأوروبية والدولية، بالإضافة إلى السياسات الاقتصادية”.

تواجه العديد من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وسط الصراع المستمر بين روسيا وأوكرانيا، أزماتٍ متعدّدة، بما في ذلك فرنسا وألمانيا، أكبر دولتين في الكتلة. وفي ظل جولة جديدة من التعاون، هل يتكاتف هذان البلدان ويخرجان معاً من الأزمات التي يواجهانها؟ وخاصة أن العديد من الدول الأوروبية يواجه حالياً ثلاث مشكلات داخلية. أولاً، هناك أزمة تتعلق بالمزارعين والزراعة في أوروبا، وتتصاعد ثورة الفلاحين من فرنسا وألمانيا إلى بلجيكا. قام المزارعون في عدد من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بإغلاق الطريق في شكل من أشكال الاحتجاج على لوائح الاتحاد الأوروبي التقييدية المفرطة بشأن الزراعة والمنافسة غير العادلة من الخارج. وبنظرة أعمق، يبدو أن غضب هؤلاء المزارعين في جميع أنحاء أوروبا ينبع من شعورهم بأن بقاءهم مهدّد بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج وانخفاض الدخل بسبب تدهور البيئة التجارية الجيوسياسية والاقتصادية الدولية.

علاوة على ذلك، تعكس هذه الجولة من احتجاجات المزارعين في أوروبا أن الزراعة الأوروبية، باعتبارها صناعة راسخة، تواجه تحوّلاً صناعياً صعباً وسط التنمية الخضراء والتحدّيات التي يفرضها المنافسون، مثل المنافسين في أمريكا الجنوبية وأوروبا الشرقية، حيث تتمتع كلتا المنطقتين بمزايا فيما يتعلق بكمية المنتجات وجودتها وسعرها.

ثانياً، هناك أزمة الطاقة والتضخم في أوروبا. الدول الكبرى في القارة ليست منتجة رئيسية لمصادر الطاقة، بما في ذلك النفط والغاز الطبيعي. وبدلاً من ذلك فإن الطاقة تشكل “نقطة الضعف الناعمة” للاتحاد الأوروبي. وربما لا يشكل هذا مشكلة كبيرة في الأوقات العادية، ولكن بمجرد حدوث حالة الطوارئ، مثل الحرب بين روسيا وأوكرانيا، فإن هذا الضعف الذي يعاني منه الاتحاد الأوروبي سوف ينكشف بالكامل. وثالثاً، هناك نزاع حزبي متزايد الخطورة وأزمة تفتت سياسي في دول الاتحاد الأوروبي، حيث أصبحت ظاهرة صعود القوى اليمينية بارزة على نحو متزايد في ألمانيا، مع تزايد قوة اليمين المتطرف، وكان لذلك تأثير كبير في الطيف السياسي الحالي في ألمانيا.

أما بالنسبة للتهديدات الخارجية، فهناك اثنان: الصراع الروسي الأوكراني المستمر، والحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة. إن الاتحاد الأوروبي يشكّل أنموذجاً للمحاولة الأولى في العالم لتحويل كتلة من الدول المنفصلة ذات السيادة إلى اتحاد، ومن ثم اتحاد فيدرالي من خلال السبل السلمية. ويمكن للأزمات الكبرى فقط، مثل أزمة الديون الأوروبية قبل أكثر من عقد من الزمان، والأزمة الجيوسياسية الحالية، والتهديدات الداخلية والخارجية، ترسيخ العشرات من الدول ذات السيادة غير المتجانسة للغاية والدفع نحو مزيد من التحوّل.

على سبيل المثال، في خضم أزمة الديون الأوروبية، وافقت بعض دول أوروبا الجنوبية وأوروبا الشرقية المتضرّرة بشدة على نقل سيادتها المالية جزئياً، وخاصة السيادة المتعلقة بالميزانية، إلى الاتحاد الأوروبي. وقد أدّى هذا إلى حدّ ما إلى تعزيز التكامل المالي والضريبي للكتلة.

وفي الوقت الحالي، تعاني ألمانيا وفرنسا، “العمودان الفقريان” للاتحاد الأوروبي، من قيود مالية بعد تعرّضهما لوباء كوفيد-19 والركود الاقتصادي العالمي. ومع ذلك، عندما واجهت مشكلة المساعدات لأوكرانيا، وهي قضية صعبة، وافقت جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي البالغ عددها 27 دولة بالإجماع مؤخراً على حزمة دعم إضافية بقيمة 50 مليار يورو (54) مليار دولار لأوكرانيا.

ويمكن أن ينظر إلى ذلك باعتباره حلاً مؤقتاً من جانب الاتحاد الأوروبي لتحدي الأزمة الخارجية في ظل البنية السياسية الفريدة للاتحاد الأوروبي. وهو اختبار مهم للكتلة حول كيفية حل الأزمات الحالية التي تواجهها، مثل الأزمات في الزراعة والطاقة والتضخم، فضلاً عن النزاعات الحزبية الخطيرة بشكل متزايد والانقسام السياسي. فهل زيارة أتال إلى برلين قادرة حقاً على وضع تاريخ المنافسة الطويل بين فرنسا وألمانيا جانباً، وتعزيز التعاون بين البلدين، والتوصل إلى حلول عملية للأزمات الحالية والمضي قدماً في رحلة التعاون الوعرة؟!.

لا يبدو أن الحلول المرحلية ستجدي نفعاً في ظل تزايد المشكلات الأوروبية الاقتصادية على خلفية العقوبات الغربية الأحادية الجانب المفروضة على روسيا.