لجينة الأصيل.. الحاضرة إرثاً إبداعياً وذكريات
أمينة عباس
يرحل الإنسان ويترك في نفوس محبيه سيلاً من الذكريات الجميلة، وعندما يرحل المبدع جسداً يترك وراءه إرثه الإبداعي الذي يبقى شاهداً على حضوره الدائم.. ولأنها لا تشبه أحداً باستثنائيتها كإنسانة وفنانة خيَّمَ حضورها البهي على حفل تأبينها الذي أرادته عائلتها ومحبوها وكل من عرفها عن قرب ألا يكون تقليدياً، وهي التي كانت تصنع الفرح بألوانها وابتسامتها، فعزفت ابنتاها الموسيقيتان رهف وأروى على آلتَي الهاربْ والكَمان المقطوعات التي كانت تحبها على الرغم من مرارة الفقد، ونشرت لوحاتها ورسوماتها للأطفال في المعرض الذي رافق حفل التأبين البهجةَ والنقاءَ وروح الطفولة بين الحاضرين وقد أرادته وزارة الثقافة أن يكون تحية لروح فنانة كبيرة كما جاء في تصريح الوزيرة الدكتورة لبانة مشوح التي افتتحت المعرض وحضرت الحفل، وأكدت أن الراحلة كانت اسماً على مسمّى، فنانة أصيلة، أمضتْ حياتها في عطاء متميز، ومعرضها الاستعادي الذي يضم نماذج من إنتاجها الفني متعدّد الأوجه والمتطور عبر الزمن سلوكاً وفكراً وتعبيراً بيَّن ذلك وأفصح عن أن رسومات الأطفال كانت الأقرب إلى نفسها وهي التي ارتقت بهذا الفن ليصبح فناً راقياً يوازي أي فن تعبيري آخر، في الوقت الذي احتلت فيه المرأة كقيمة أساسيّة في الحياة والمجتمع حيزاً كبيراً من لوحاتها للكبار: “هي خير قدوة لشبابنا وفنانينا في مسيرتها الإنسانية والفنية”.
واجتمعت عائلتها والمقربون منها في جلسة شديدة الحميمية في حفل التأبين للحديث عنها وهي الغائبة جسداً والحاضرة بما تركته من أثر وذكريات ستبقى في وجدانهم دوماً، فالفنان والناقد سعد القاسم الذي أشرف على الحفل وأدار الجلسة قال: “أعرفها منذ سنوات طويلة، وكانت دوماً تترك أثرها الكبير بهدوئها الوافر النبيل وثقتها بنفسها.. درَّستْ في كلية الفنون الجميلة، وكانت في مقتبل العمر، ومع ذلك استطاعت باستثنائية شخصيتها أن تفوز بإعجاب وثقة وحب طلابها، ورسمت بتلقائيّة، بالإضافة إلى ثقافتها العالية وحبها الكبير لرسومات الأطفال، ونجاحها في تكريس هذا الفن ليكون له قيمة جعلها واحدة من أهم الفنانات في العالم، وقد مارست الرسم للكبار، وكانت تعبّر من خلال لوحاتها عمّا كانت تشعر به من آلام وأوجاع وأحلام، وفي لوحة الطفل هي من كانت تهرع إلى عالمه لتمارس طفولتها التي لم تتخلَّ عنها”.
في حين شبَّهتها صديقة عمرها الفنانة أسماء فيومي بطائر الفينيق الذي يرفض الاستسلام، فما إن يقع حتى يقف ثانية: “لم يمنعها مرض السرطان الذي رافقها سنوات من الاستمرار في العمل، وهي التي لم تشتكِ منه في يوم من الأيام، فكانت ترسم وتقيم ورشات عمل وتخضع للعلاج الكيميائي، وكانت طفلة صغيرة بقلب نقي”.
ولم يتمكن الشاعر بيان الصفدي من إخفاء تأثره برحيل شريكته في المشاريع الفنية: “أعرفها جيداً وسافرنا معاً مرات عدة، وكانت طفلة لا تكبر وتزداد طفولتها مع الزمن، وقد خسرت برحيلها المشاريع الكبيرة التي لا أستطيع أن أقوم بها بغيابها، وقد اجتمعنا سوية في مشاريع فنية عديدة داخل سورية وخارجها، ورسمت رسومات أول مجموعة شعريّة صدرت لي في سورية، وكانت مثقفة وتعمل بصدق وإخلاص، لذلك غالباً ما كانت تناقشني فيما أكتبه وأنشره، وتشجعني على الاستمرار، فكانت محفّزة على الإبداع”.. وعن لقائه الأول بها قال: “تعرّفتُ عليها عام ١٩٧٩ في بغداد عندما كنتُ أدرس في الجامعة وأعمل في مجلة “المزمار” وكانت هي من سألت عني لتتعرف بي، وحين عدتُ إلى سورية كانت هي من ترسم أشعاري وقصصي في مجلة “أسامة” وعندما استملتُ رئاسة تحرير المجلة لم تبخل علي من خبرتها وشاركتني مشاركة يومية في الأفكار، كما كانت هي من اقترح أن تكون هناك مجلات للطفولة المبكرة وتُرجِم ذلك بولادة مجلة “شامة”.
ليس من السهل اختصار ذكرياتنا مع الراحلين الذين نحبهم وأثّروا فينا، وليس من السهل أيضاً أن نتعايش مع غياب من كان يساندنا ويدعمنا فكيف إذا كان الداعم والسند لجينة الأصيل.. تقول الفنانة ريما كوسا كطالبة ومتدربة على يدها: “لن أنسى أبداً أن الفضل في توجهي إلى الطفل يعود لها، وأنا أعرفها منذ عشرين عاماً، وعندما شاهدتْ مشروع تخرجي شجعتني على الرسم للأطفال، لذلك كنتُ حريصة على المشاركة في الورشات التي كانت تقيمها حول كتاب الطفل، وكانت معلمة بمنزلة الأم، وفنانة متواضعة، وكريمة، لم تبخل يوماً على طلابها بشيء.. لقد سقت البذرة الموجودة عندي باهتمامها وملاحظاتها، وشجعتني على البحث والاطّلاع وتطوير الذات لتقديم ما يليق بذهنيّة الطفل، لذلك أعدها أن أكون عند حسن ظنّها في تقديم لوحة للطفل تحمل -كما لوحتها- كل المشاعر والأحاسيس الصادقة، وأكثر ما كان يزعجها هو عدم الجديّة والاستسهال والاستخفاف بعقل الطفل من قبل بعض الفنانين لإيمانها أن الطفل ذكي وصادق في حكمه على العمل لأنه لا يجامل ويعطي رأيه بصراحة، لذلك تعلمتُ منها احترام عقلية وذهنية الطفل والتوجه له بحبّ والعمل على إدهاشه لبثّ الفرح في قلبه ورسم الابتسامة على وجهه ومخاطبته بصدق وحسّ عالٍ بالمسؤولية، وقد استفدتُ منها كثيراً في العمل الفني، لكنني تأثرتُ بها على الصّعيد الإنساني أكثر لأنها كانت مُحبّة ومتواضعة، وعلى الرغم من أهميتها وقيمتها الكبيرة كانت لا تتردد في الاتصال بفنان مبتدئ للتعبير عن إعجابها برسوماته، وهذا ما فعلته معي، فكان كلامها دافعاً قويّاً لي للاستمرار”.
وبكلام زوجها أمين شيخاني انتهت الجلسة بعد أن عاد إلى السنوات البعيدة التي تعرّف فيها على لجينة الاصيل والتي كان اسمها يتردّد على ألسنة الأساتذة والطلاب كصاحبة موهبة استثنائية في الرسم، الأمر الذي أثار فضوله للتعرّف عليها: “عندما شاهدتُها شعرتُ أنني أعرفها منذ زمن طويل.. كانت فنانة مسؤولة بكل معنى الكلمة، وكانت أماً مسؤولة في الوقت ذاته، وقد آمنتُ بها وبموهبتها، وكانت خير معين لي في حياتنا الزوجية”.
في رصيد لجينة الأصيل عدد كبير جداً من الجوائز نذكر منها: الجائزة الأولى لتصميم ملصق جداري لمهرجان السينما العربية- فرنسا، ميدالية المجلس العربي للطفولة والتنمية- القاهرة، ضيفة شرف في معرض بولونيا الدولي لكتب الأطفال- إيطاليا، جائزة المسابقة الدولية لرسوم كتب الأطفال- اليابان، جائزة أفضل كتاب للأطفال- معرض بيروت الدولي، جائزة الملتقى العربي لناشري كتب الأطفال، جائزة تقديرية من BiB ـ سلوفاكيا، جائزة الجمعية البرلمانية للبحر المتوسط- بلغراد، وهي عضو في العديد من المنظمات العربية والدولية وفي لجان تحكيم العديد من المسابقات المحلية والعربية، وكرَّمتها وزارة الثقافة مرات عدة، وأشرفت على العديد من الورشات المحلية والعربية حول كتاب الطفل، وأكثر من 200 لوحة من لوحاتها مقتناة من قبل المتاحف والمؤسسات، ولها نصوص ورسوم 26 حلقة تلفزيونية للأطفال، وثلاثة كتب للأطفال، وتصميم ورسم أكثر من 80 كتاباً للأطفال، ورسوم عشرة أفلام رسوم متحركة إعلانية.