محمد الفيتوري.. عاشق الشعر والحرية
جمان بركات
محمد الفيتوري شاعر من جيل الرواد الذين ساهموا في ترسيخ الثورة الأسلوبية التي حدثت لشعرنا العربي في أواخر الأربعينيات، تميّز شعره بنكهة محايدة خاصة هي مزيج من الصراخ المرّ والسخط المتولد على شطط هذا العالم، يمضي في فضاء الكتابة بحثاً عن نقطة مضيئة، وسعياً إلى لحظة برق وكأنه امتلك ناصية الإبداع، فراح يجول ويصول في ردهاتها ممتشقاً قلماً للحب الإنساني الكبير وللحرية، إذ بقي على قناعاته السياسية ولم تغيّره التحولات الكبيرة وحالة الإحباط والتردي والانكسار، بل زادته تمسكاً بفكره التحرري، شاعر محب للآخر، حباً يعكس حبه الكبير للحياة، لا يتنكر لصديق ولا يحابي على حساب قناعاته، عرفناه من خلال قصائده التي شكلت حلم عمره ليمتشق القصيدة سلاحاً في مساحة كبيرة من الحرية، فنستقرئ الجرأة والرؤية الجديدة والمتجدّدة، كما نقرأ فيها بعضاً من أجوبة لأسئلة تلحّ علينا، أسئلة عن الحياة، الوجود، الوطن، وقضايانا المتناثرة، كان دائماً يشحذ همم الجيل بأن القادم من الأيام أجمل وأكثر رحابة وحرية، وكان متفائلاً بمستقبل الأمة وبجندها المستميتين في الدفاع عن وطنهم، هذا الوطن الذي كتب عن آلامه وآماله، وتطلعاته وجماله المستباح.
إبداع متفرّد ومتجدد
كان الفيتوري شخصاً منتمياً لإنسانيته قبل انتمائه لأية قيمة أخرى، وكان مؤمناً بأن الحوار والاختلاف مع الآخر هو الجوهر في فكره وهو الطريق إلى التوافق، فكان يصوغ للآخر رأياً يفتح الباب لسجال ثقافي مديد الأبعاد متمسكاً بمبادئ هي الأولى في الحياة وبعدها يأتي أي شيء، تلك المبادئ كان ينسجها كل يوم بصيغة جديدة تبعد عنها مواتها ونمطيتها لتشعّ بروح جديدة في فضاء الشعر والمعرفة، حيث قدّم إبداعاً متفرداً عبر مشروعه الأدبي الذي صاغه برؤية متكاملة ومنسجمة، وهذا دليل على صدق تجربته الإنسانية أولاً والأدبية ثانياً، رؤية حملت هموم وطن، وهموم الناس في وطنه، وكان يرى أنه على الإنسان أن يكون مخلصاً لتجربته وذاته في أفق الانتماء الحضاري، وغالباً ما كان يردّد: “أنا لا أستطيع أن أخلع نفسي من انتمائي، حريتي تمارسها ذاتي ولكن في إطار انتمائي الحضاري والفكري والوطني والتراثي، وهذا كله يأتي مصهوراً في بوتقة التجربة الإنسانية التي تُخرج كل ذلك بخلفية شعرية”، ولكن رغم سنوات الاغتراب الطويلة التي عاشها بقي الوطن ذاكرة مفتوحة على الحلم في روحه تعكسها قصائده بكل تفاصيلها، ومن يتمعّن في شعره يقرأ عشقه لحالة الخوف واللحظات اللا إنسانية التي عاشها في مسيرة حياته، لأن هذه الحالات هي التي جعلته يدرك معنى أن يكون شاعراً وأن يكون إنساناً، وهذه الإنسانية تظهر جلية في أعماله، فنراه يفتح قلبه ليستوعب كل الناس من حوله، حتى أصبحت قصائده سجلاً وديواناً لكل أشكال الحركة المعاصرة بكل تداعياتها وإشكالاتها، وكأنما سكنت روحه ثنايا شجر النيل التي ظلّ متشبثاً بها حتى لحظته الأخيرة، إذ يقول:
سأرقد في كل شبر من الأرض
أرقد كالماء في جسد النيل
أرقد كالشمس فوق حقول بلادي
مثلي أنا ليس يسكن قبراً
كما كان الفيتوري مؤمناً بانتصار الإنسان لقضيته الأهم، فيقول: “أجمل تجربة أعطتني إياها الحياة في مراحل حياتي هي تجربة الإيمان بالنفس، فأنت كلما كنت شريفاً في مواقفك، كنت بعيداً عن المطامع الشخصية وكنت بالتالي مستغرقاً في آلام أمتك متوحداً معها منصهراً فيها، أنت قويّ وقادر على عبور هذه المرحلة بكثير من الشرف وكثير من الاعتزاز”.
الشعر رسالة
في بداية تجربته الشعرية واجهته مشكلة تمثلت بتحطيم الحواجز القائمة بين لغة القاموس ولغة الناس، بين أحاسيسهم وأحاسيسه، كان يسعى لأن يكون أكثر قدرة على التفجر باستمرار من خلال معطياتهم الإنسانية والثورية، وأن يقترب من مصادر إلهامهم كلما أمكنه الاقتراب، كما كان يرفض أن يصنّف داخل قالب معيّن أو يوصف بصفات تتجاوز قصيدته، كأن يوصف بالشاعر الحديث، مؤكداً أنه مجرد إنسان قُدّر له أن تكون الكلمة سلاحه، والنغمة وسيلته إلى قلوب الآخرين، وأن تكون العلاقة بينه وبين الكائنات من حوله هي علاقة الكلمة بالكلمة مع كل ما يتداخل في هذه العلاقة من صور وأفكار ومعطيات، ومن هذا المنطلق والإيمان بأن الشعر هو الشعر، كان يقول: “أؤثر أن أظل أمام نفسي وأمام الآخرين كما أنا، مجرد شاعر وهذا يكفيني، وقد تكون هناك نقطة دقيقة بحاجة إلى شيء من الإيضاح، وهي المدارات النفسية والاجتماعية والإنسانية التي تحوم حولها أفكار قصائدي وأحاسيسي كشاعر، فأنا أيضاً شاعر يعيش تجارب عصره ويرفض أن يرى نفسه أو يراه الآخرون منعزلاً عنها، فلكل عصر تجاربه الفنية، كما أن لكل عصر قضاياه ومشاكله وتحدياته الخاصة، تلك حتمية لا جدال فيها، والتاريخ الإنساني بمختلف عصوره وحضاراته يعلمنا ذلك”.
انتمائه للمرأة
في مجموعته “ابتسمي حتى تمر الخيل” نلمس انتماءه للمرأة التي احتلت المكان الأرحب في شعره، كانت همزة الوصل بينه وبين العالم، وعندما يُسأل عن علاقته بالمرأة كان يجيب: “هي روحي ممتدة ومتعانقة مع أرواح الناس خارج الجسد، المرأة ليست بالنسبة لي ذلك الكائن الجميل أو الدميم، بل هي الضوء الذي يتفجر من إنسان ما فيضيئني جسداً وروحاً، يضيء طريقي وروحي فأشعر أنني أخلق خلقاً جديداً، لذلك لا أستطيع أن أكتب إلا وأنا في حالة عشق، ولا أن أعيش حياتي إلا وأنا عاشق، فأن أُحبّ الكائن الآخر يعني أن أؤسس وجودي الخاص، وهذا الكائن يرمز إلى العالم كله، وفيه يتلخص وجودي مندمجاً في الوجود الإنساني، ولم تخلُ فترة من فترات حياتي من الحب، وقد كتبت الكثير من قصائد الحب لأنني عشت تجارب حب عديدة، فأنا دائماً في حالة عشق، ولكن ليس ذلك العشق الرومانطيقي، حالة العشق عندي تختلف وحين أصبح عاجزاً عن العشق سأنتحر”.
في الشهر الرابع من عام 2015 توقف قلب الشاعر السوداني الفيتوري عن النبض في المغرب لينضمّ إلى قافلة المبدعين الراحلين، لكن آثاره ستزداد مع الأيام جلاء ووضوحاً، وستبرز أهميتها، وسينظر إليها على أنها شهادة حقيقية على المرحلة التي عاشها، فقد رحل بحكم قانون الحياة وصيرورتها، لكنه رحيل الجسد وبقاء الروح نبتة خضراء مورقة في أجيال تمثل الامتداد لرسالته وتجربته.