ثقافةصحيفة البعث

الدور الثقافي للفلسفة.. تكامل وجمال معرفي

أمينة عباس

“تبدو العلاقة بين الفلسفة وغيرها من فروع الثقافة الأخرى علاقة إشكالية غير قابلة للفهم عند بعض الأدباء والفلاسفة، لكن الباحث المتعمّق والأديب الحصيف يدرك أن ثمّة علاقة وثيقة بينها وبين غيرها من الفروع الثقافية والأجناس الأدبية”. بهذه الكلمات لخّص د. محمد الحوراني رئيس اتحاد الكتّاب العرب عنوان الفعالية الثانية لحلقة الفلسفة السورية التي عُقدت في كلية الآداب تحت عنوان “الدور الثقافي للفلسفة” بمشاركة د. إبراهيم سعيد ود. عمار النهار ود. علي صافي بحضور د. علي أسبر.
وعن حلقة الفلسفة السورية تحدثنا رئيسة قسم الفلسفة في كلية الآداب- جامعة دمشق د. بشرى عباس التي أدارت الفعالية: “هذه الفعالية هي الثانية في برنامج الحلقة، وهي حلقة وليدة أسسها دكاترة قسم الفلسفة في كلية الآداب نذكر منهم د. علي أسبر ود. ناريمان عامر، هدفها إعادة الاعتبار للفلسفة حتى لا تبقى حبيسة المحاضرات والحديث عن دورها التنويري وتحرير العقل والسؤال بعد أن عانت الفلسفة في السنوات الأخيرة التهميش وتراجع الاهتمام فيها من قبل الجيل الجديد لمصلحة التكنولوجيا، لذلك كان من الضروري إعادة الحديث عن قيمة العقل والتفكير والنقد، وهو ما ستحرص عليه الحلقة عبر نشاطها الدوري كل ثلاثة أشهر من خلال تناول علم الفلسفة وعلاقته مع الثقافات الأخرى”.

تعدّدت الموضوعات التي قدّمها المشاركون في الفعالية، إذ تناول د. محمد الحوراني العلاقة الوثيقة بين الفلسفة وفروع الثقافة قائلاً: “كبار الفلاسفة يؤكدون سموّ العلاقة الفلسفية الأدبية ورفعتها، ولهذا فإن بعض الفلاسفة من الشعراء مثل ابن عربي يرى في الخيال، وهو عماد الشعر، ضرورة للوصول إلى المعرفة، على حين يبيّن صلاح عبد الصبور أن الشعر والفلسفة هما القوة الدافعة إلى تغيير العالم، كما نظم ابن سينا نظريته في النفس الإنسانية شعراً، وجسّد نيتشه الفلسفة الحديثة بثلاثيته الفلسفية في إرادة القوة والإنسان الأعلى والعود الأبدي التي قدّمها في قالب شعري، وجمع كذلك كبار الشعراء بين الشعر والفلسفة مثل أبي العلاء المعري شاعر الفلسفة وفيلسوف الشعراء، وهو الخطّ الذي سار عليه المتنبي وأبو تمام وأدونيس ومحمود درويش، وغيرهم من الشعراء المشتغلين بالأسئلة الفلسفية والشعرية، وفي الموسيقا ذهب بعض الباحثين إلى الحديث عن أثر الموسيقا في فلسفة نيتشه التي عدّها الحقيقة الماهوية للعالم، وكانت لديه إحدى جذور الشعر، فجاءت كتاباته مملوءة بخصائصه من استعارات وتشبيهات ورموز وصور وخيال وقدرة على الاستنباط، ولمّا كانت العلاقة بين الفلسفة وغيرها من فروع الثقافة والأدب قوية وراسخة كان لا بدّ أن تتناغم الفلسفة وتتحاور مع السرد، فتراءت في الثقافة الغربية أعمال كثيرة من “محاورات أفلاطون” إلى “كاندير” لـ”فولتير” وحتى “الغريب” لـ”ألبير كامو” و”الذباب” لـ”سارتر”، فضلاً عن كثير من الكتابات العربية مثل “حي بن يقظان” لابن طفيل، و”الغربية الغريبة” للسهروردي، وكتابات جبران خليل جبران ونجيب محفوظ وإبراهيم الكوني، وكلها أعمال انطلقت من اهتمامات فلسفية لأصحابها، لهذا لا غرابة أن تشكّل رواية “الغريب” لـ”ألبير كامو” واحدة من الأعمال ذائعة الصيت في مسار الأديب والفيلسوف، حيث جسّد أفكاره حول العبث والوجودية بأسلوب أدبي وعمق فلسفي لا مثيل له في فن الرواية، وكان من الطبيعي أيضاً أن يكون للفلسفة دورها الكبير في تكوين الفكر النقدي عبر ممارسة التفلسف بأدواته المعروفة من دهشة وشكّ وتساؤل، وصولاً إلى الوعي بالذات وبالعالم بعقلانية ومنطق”.
ويختتمُ الحوراني كلامه مؤكداً أن “العلاقة بين الفلسفة وفروع الثقافة الأخرى بأمسّ الحاجة إلى قراءة جديدة واعية ومختلفة، تقوم على التكامل والجمال المعرفي، انطلاقاً من الفكرة القائلة إن الفلسفة هي جذع شجرة تخرج منها ثمرات العلوم”.

ولا غرابة في الربط بين علم يبحث في تضاريس الأرض وأنماطها وحدودها ومقوماتها الطبيعية وعلاقتها بقاطنيها وبين الفلسفة كنشاط عقلي يبحث في الفكر وميادينه واستدلالاته وأحكامه وقدرته على بناء النماذج التفسيرية لكل الظواهر، لذلك يبيّن د. إبراهيم سعيد تحت عنوان “فلسفة الجغرافيا” أنّ “علم الجغرافية قديم قدم الإنسان، وهناك تقارب كبير بين الفلسفة والجغرافية التي تُعنى بالمكان والإنسان ونشاطه الاقتصادي والقضايا المتعلقة بالبيئة، لذلك هناك العديد من الفلاسفة أثّروا في الجغرافية التي قدّمت لهم إمكانات لصياغة تصوراتهم أمثال أرسطوطاليس ومقولاته العشر الموسوعية المعروفة، كالمكان والزمان والكيف والعقل والانفعال وغيرها، وهي من الناحية الجغرافية تعتمد كلياً على كيفية المعلومات والكمّ، مستفيداً من العناصر الجغرافية كالمناخ والموقع في إطلاق أحكام حول من يعيش فيه من البشر، كذلك فعل ابن خلدون و”كانت” مؤسّس الجغرافية الحديثة التي عدّها مكوّناً فكرياً وضرورة لا بدّ منها في المجتمعات لفهم المكان وخصائصه وما يقدمه للإنسان، انطلاقاً من التأثير المتبادل بين الإنسان والبيئة التي يعيش فيها”. وخلص سعيد إلى أن “الفلاسفة غالباً ما يستندون إلى المعطيات الجغرافية عند طرح تصورات عن الكون والوجود والطبيعة مثل نظريات المكان والزمان، كذلك أثرها في تشكيل الحضارات والنظم الاجتماعية”.

وفي مشاركته، قدّم د. عمار النهار قراءة في نسخ مخطوط مقدمة ابن خلدون قائلاً: “مقدمة ابن خلدون تُرجمت إلى كلّ مؤلفات العالم، ونسخ المخطوط الأصلي ومقدمته موجودة في معظم مكتبات العالم، وقصة تحقيقها خضعت للمقابلة مع النسخة الأم وتمّ نسخها وضبطها ومقارنتها مع النسخ الأخرى، مع الإشارة إلى وجود أخطاء في بعضها وقعت أثناء النسخ بفعل الناسخ الذي كان يقوم بالحذف كما يحلو له، ومنها ما وقعت بشكل غير مقصود بفعل عوامل الزمن التي أدّت إلى تمزيق في المخطوط وقد حُققت المقدمة كثيراً، وخاصة في المغرب، ونالت الكثير من الاهتمام في المشرق والمغرب، وكانت أفضل دراسة قُدمت حولها لساطع الحصري، حيث استطاع إيجاد سرقات فيها، واكتشف أنّ عبد الله العلوي أخذ من “ميكيافيلي”، أما النسخة الصحيحة منها فهي موجودة في كتاب “التذكرة الجديدة” لتلميذ ابن خلدون ابن حجر العسقلاني، علماً أنّ تنقيحها مرّ وفق مرحلتين: الأولى التونسية، والثانية المصرية”.

وتحت عنوان “الفلسفة والدين- العقل والنقل” وبعد تعريفه للدين في الأصل اللغوي والاشتقاقي يرى د. علي صافي أن “القاسم المشترك بين كل الأديان هو الاعتقاد بالألوهية وممارسة جملة من الطقوس أو ما يُسمّى بالعبادات، وفي نطاق المنظور الإسلامي لم يكن التعارض بين المعقول والمنقول شاسعاً، لما أولاه القرآن نفسه من أهمية كبيرة للتفكر والتدير والتعقل، فالآيات الزاخمة بهذا اللون تكاد لا تُحصى، والمعجزة الكبرى في الإسلام هي القرآن، وهي تحاكي العقل وتحفزه، وفي التاريخ الإسلامي لم تكن الإشكالية في من يأخذ بالنقل بلا عقل أو بالعقل بلا نقل، بل المشكلة تكمن في أولوية أحد الطرفين، فالكلّ تقريباً يجمع بين العقل والنقل، ولم تكن مسألة التوفيق بينهما حاضرة فقط في الأوساط الفلسفية بل وحتى لدى كثير من الفقهاء والمفسّرين، فلدى الجميع تقريباً العقل لا يضاد النقل، لكن الخلاف يكمن فيما إذا تضادا، ومن يكون خادماً أو مخدوماً، أما فيما يتعلق بموضوعات كلّ من الفلسفة والدين فلا شك في أن لكل منهما موضوعاته الخاصة به، وهناك موضوعات مشتركة بينهما، وهذا الموضوع خلافي وما يزال إلى اليوم، وأنا مفعم بثقة كبيرة بقدرة العقل على طرق كل الأبواب وفتح ما استغلق من مسائل الدين، باستثناء ربما ما يتعلق بالعبادات، فمدخل العقل إليها عويص، وما أقصده هنا بالعقل ليس محصوراً بالعقل الفلسفي بل بالعقل الإنساني بكل إمكانياته وطاقاته بما فيها العلمية”.