“جمرة غضى” بين الفصيح والنبطي.. ثمة غزل
ملده شويكاني
الغضى نوع من شجر الأثل، يمتاز بصلابة خشبه، فتبقى ناره وهاجة طويلاً لا تنطفئ، وقالوا “أحرّ من جمرة الغضى” إشارة إلى لهفة الانتظار، وهكذا كانت أمسية “جمرة غضى” بمشاركة الشعراء الطبيب د. حسين خليل والصيدلانية د. أسمهان الحلواني وعبد الكريم العفيدلي في المركز الثقافي العربي ـ أبو رمانة.
حملت الأمسية كل الإحساس بالدفء واللهفة والاشتياق وعززت الانتماء والمقاومة بانسيابية الشعر العمودي والنبطي وقصائد النثر، ولم تخل من الغزل بتأثير الشعر النبطي، وحظيت بإدارة وتقديم الأديب والإعلامي محمد خالد الخضر فاستهلها بتقديم لمحة عن الشعراء المشاركين، وأبدى إعجابه بشعر د. حسين خليل الوجداني المحمّل بالحسّ الوطني المتصف بانسيابية مفرداته بقصائده الفصيحة الموزونة المبنية على الشعر العمودي، وأشار إلى د. أسمهان الحلواني التي تغلب سمة الحالة النثرية على النصوص التي تكتبها، لكن الصورة التي تلتقطها والحالة الفنية والجماليات التي تشتغل عليها أوصلت نصوصها إلى فنية رائعة، كما أنها تجمع بين موهبة الشعر والرسم، وتمتلك بالفنّ التشكيلي هوية قوية.
أما الشاعر عبد الكريم العفيدلي فيحمل بشعره عبق الجزيرة المحمّل بالأصالة والتاريخ والتراث وينتمي إلى الشعر الأصيل الذي يمتلك المقومات المؤسسة لاستمرار الشعر، بالإضافة إلى الشعر النبطي.
وبدأ الشاعر د. حسين خليل بقصائد عبّرت عن الحب المبني على الصدق، أشار من خلالها إلى العلاقة بين الناي والحب والحياة، كما عاد بصوره إلى القديم فاستلهم بالتناص غير المباشر صور الشاعر أبو فراس الحمداني بقوله:
سيذكرني قومي إذا جدّ جدّهم
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
يقول د. خليل:
وفي الأقمار إن دلّت بدور
وفي الظلماء يفتقد الأصيل
كما دعا إلى الاهتمام بالطفولة بإيماءة إلى ما نراه من معاناة آلاف الأطفال من قسوة الحرب:
استنطقوهم لو أردتم حكمة
وضعوا المسائل دونهم فهم المسائل
واستعذبوا الألحان فيهم لو بكوا
واستثمروا الضحكات لو ضحكوا بلابل
واعتمد على الرمزية والتفعيلة في قصيدته “تالا” التي صوّر فيها مفاتن دمشق الخالدة:
تالا دمشق، وليت تالا عشقنا
والعشق أن تصل السماء
بتالا
وبمشهد شعري آخر قرأت د. أسمهان الحلواني مجموعة من قصائدها النثرية التي مضت بسياق الحكاية العاطفية، معتمدةً على خاصية المنولوج الشعري بالحوار مع الذات، وشدّت القارئ إلى الحالة التعبيرية الشعرية الغنية بوصف المشهد الدرامي ولاسيما في النهايات بمقاربة من لوحاتها التشكيلية بأسلوبها التعبيري، ففي قصيدتها “هندستي معك” ترسم الحالة التي تعيشها الأنثى في غياب الحبيب:
وعمداً…أميل عن شعاع النسيان مئة وثمانين درجة، أتمدد على فراش الذاكرة
وأذوب في انحناءات روحي الدامية
عند صبيحة ناصعة
أستقيم من اللانوم إلى حلم اليقظة
أنظف زوايا الرؤى من غيابك
وأترك في كل منها حبة نفتالين
لا أحد منحني نهايات حادة كأنت
حين فرضت قوانين قسرك
وقسمت انتظاري على مقام الرحيل
وتميز الشاعر عبد الكريم العفيدلي بقوة شعره الفصيح العمودي، فتناول موضوعات شتى، منها قصيدته الوجدانية “نهر الفرات” التي باح فيها بحزنه على ما حلّ بمنطقة الجزيرة إثر الخراب الذي فعله الإرهابيون:
عجبتُ لحاله هل شاخ فعلاً؟
أم الأغراب قصّوا رافديه
كأن النهر ليس بنهر أهلي
ولا الجسر العتيق مشوا عليه
واستحوذ الغزل بشعره النبطي على إعجاب الحاضرين، ولاسيما في قصيدة “ثوب الكودري”:
تمشي تبختر كالأميرة بقصرها
مشي الأصايل حين ضرب الدفوني
بنت القروم اللي غزير مطرها
اللي خذوها بجودهم والسيوفي
وبناءً على طلب المشاركين والحاضرين، اختتم د. تمام سليمان الأمسية بقصيدة عن الأب قال فيها:
يا كاسب البر هوناً لا تجافي أبا
فالله شرف منه النسل والعقبا
ويرى د.حسين خليل أن العلاقة بين الطب والشعر قوية، فكلاهما يقومان على التشريح والتفكيك وصولاً إلى جوهر الموضوع، وأن للأمسيات الشعرية دوراً بضخ روح الانتماء وتعزيز القيم وبعث روح الأنس، ولاسيما للشباب دعامة المجتمع، والمحرّك له وخير ما يقدم له الإرث الثقافي الموغل بالقدم المعبّر عن حضارة وعراقة بلدنا، التي قدمت الحضارة للبشرية وتمكنت من تجاوز كل الأزمات، فالشعر سوناتا وتغريدة وبسمة وتفريج للكربة وأمل.
وتحدثت الشاعرة الصيدلانية د. أسمهان الحلواني عن الأمسية التي حفلت بكل أنواع الشعر، مبينةً أن الشاعر يحمل رسالة سامية لكونه مرهف الإحساس ويستشف الإحساس ويشعر بالقضايا المهمة التي تمسّ المجتمع، ويقدمها من خلال الكلمة، فيناضل بالكلمة لإحقاق الحق، فكل معاني المحبة والانتماء والقيم النبيلة والوطنية ممثلة بالشعر.
أما الشاعر عبد الكريم العفيدلي فعقب بأنه لا يستطيع أيّ فنّ إزاحة الشعر، فالشعر ديوان العرب، وهو تاريخنا وانتماؤنا وهوانا، وللشعر دور كبير بالمقاومة فالكلمة لا تقل عن الرصاصة، والحرب تبدأ بكلمة وتنتهي بكلمة، وكانت القبائل العربية القديمة تفتخر بلسان شاعرها وصوته، فكان الشعر آنذاك أشبه ما يكون بوزارتي الإعلام والثقافة ومدوّن للتاريخ وأمجاد العرب، فكم من قبيلة دُثرت ببيت شعر وكم من قبيلة رُفعت ببيت شعر، واليوم يجب أن يفعل الشعر كسلاح على المنابر، ولاسيما أن أعداءَنا يستهدفون جيل الشباب، ويحاولون حرف عقيدته ووطنيته، وبالمقابل نستطيع توظيف الشعر لضخ الوطنية والانتماء في نفوسهم، وقد لفت انتباهي حضور الشباب ما يدل على أن جمهور الطلبة مهتم بثقافته وبآدابه.
وأشاد الدكتور مهدي دخل الله عضو اللجنة المركزية السابق بالشعب السوري العظيم فبعد الحرب والمآسي ما تزال الحياة مستمرة، وما تزال الجمهور يرتاد المراكز الثقافية ويتابع الأمسيات والندوات والمعارض، مؤكداً أن شعباً يمتلك هذه الروح لا يمكن أن يهزم وسيتجاوز كل الأوضاع الصعبة.