ثقافة

“سنلتقي ذات مساء في يافا” المكان بطل روائي مطلق

حين يصبح للمكان خصوصيته العبقة بعطر الأمس والمتأصلة في الذاكرة، حين يصبح روحاً تتنفس وقلباً ينبض، حين تصبح القضية؛ قضية وطن وأمة، حينها يصبح للسرد الروائي متعته الخاصة وجماليته المستمدة من روعة الوطن وروعة الحديث عن قضيته وتفاصيله وأزقته التي ضمّت أرواح شخوصه وعشقهم وأحلامهم وأفراحهم وآلامهم، وكانت الشاهد الوفي على كل ما مروا به.
هي رواية المكان بلا منازع، المكان “الوطن” هو بطل الرواية المطلق الذي تسيّد في كل عبارة وفي كل مشهد، فكأنما الشخوص وجدت لتدعم سيادته وتشير إليه من خلال حواراتها وتنقلاتها.
“وكان أن خلق الرب الشام في السنة العاشرة من عمر الكون.. وأجرى فيها أنهاراً سبعة، تسورها سبع بوابات لا يدخلها إلا الأنقياء المطهرون.. تمتد جنة الفردوس من أقصاها إلى أقصاها.. وقيل إن الملائكة بسطت أجنحتها حتى غطت جبال الشام وسهولها ووديانها.. وثمة ملاك حط أحماله في أرض سماها الناس يوماً أم الغريب..”.
دمشق بأزقتها وحاراتها بخصوصيتها ودفئها، ويافا بزرقة بحرها وبيارات برتقالها وبكل ما تكتنزه من ذكريات الأجداد وأصالة الماضي، وغيرها من الأمكنة التي تحركت فيها شخصيات رواية “سنلتقي ذات مساء في يافا” للكاتبين عمر جمعة وعبير القتال، اللذين قدما لنا رواية للحب وللوطن، لوحدة الأرواح ووحدة الأوطان ووحدة القضية..
غسان وبحرية ومعهما مريم ويوسف وقبلهما تقلا وكنعان، قصص حب عاشها أبطال الرواية عبر امتداد زمني يصل الماضي بالحاضر، فرحلة الأجداد يتابعها الأبناء لتتجدد القضية ذاتها والرحلة ذاتها؛ التمسك بالأرض وبالحب وبالكفاح الذي لا ينتهي، وتحديات الحياة التي تفرض نفسها في كل زمان ومكان، ولكن عبر شخوص مختلفة..
غسان الرجل الفلسطيني الذي عاش حياته في دمشق، المغرم ببحرية الفتاة السورية المختلفة بأفكارها وثقافتها وعمقها، تفرقهما الحياة بعد مرض غسان الذي أنهى رحلة حب طويلة وجميلة بأمنيته الدائمة والأخيرة، “طوى غسان عينيه وأسلم الروح ومضى في رحيله الأبدي.. كان آخر ما همس به، وكابد أن يقوله، وتنضح به شفتاه الجافتان، سنلتقي ذات مساء في يافا..”.
لم تكن قصة مريم ويوسف قصة عادية، وهي المرأة المجروحة بكبريائها بعد زواج خطيبها خليل من زوجة أخيه، استجابة لعادات القرية، حيث يتوجب عليه، برأي عائلته وقريته، أن يحلّ محل أخيه الشهيد في الحفاظ على عائلته، في تنويه للعادات التي قد تأسر الإنسان وتسلبه حريته مجبراً، الأمر الذي يجرح مريم ويجعلها تفقد الثقة بمن حولها وبالحياة، التي تعوض عليها بيوسف، الرجل الذي لملم جراحها وداوى آلامها وكان رجل حياتها، “يوسف أخرجني من قلب الجب، وضع الشمس في روحي، علمني أبجدية الحب، كل ما قبل يوسف كان مجرد سراب.. ويوسف هو الحقيقة الوحيدة التي وعيتها”.. إلا أن الحياة تفرض قانونها مرة أخرى، فاختلاف انتمائهما الديني يحول دون زواجهما ولقائهما ويبعدهما عن بعضهما، لتنتهي قصة حب جميلة نهاية لا تليق بجمالها وتنتهي معها حياة مريم غرقاً بعد أن دفعت يوسف للزواج بغيرها وإنجابه لطفلة سمّاها مريم.
الانتماء الديني المختلف الذي كان سبباً في فراق مريم ويوسف لم يكن سبباً في فراق تقلا وكنعان في الماضي، حيث يعود بنا السارد إلى أيام لقائهما في يافا وتحديهما لكل العادات بقوة وفرض قانونها العشقي على الحياة وانتصارهما للحب الذي كلل بإنجابهما لحسن.
لطالما ردد غسان على مسامع بحرية أنه يتمنى أن يلقاها في يافا في إحدى الأمسيات على شاطئ بحرها، وهو الحلم الذي راوده كثيراً وبقي ماكثاً في قلب بحرية لا يفارقها، إلى أن جاء اليوم الموعود، حيث ذهبت بحرية إلى التلة المطلة على بلدة مجدل شمس لإحياء ذكرى النكبة، لتخترق الجموع الأسلاك الشائكة وحقل الألغام ثم الذهاب للقدس، أما بحرية فقد تجاوزت كل الصعاب للوصول إلى يافا، لتقف على شاطئ البحر الذي تاق غسان للقائهما عليه، لتحقق له الحلم الذي لطالما راوده، حلم العودة إلى الوطن، “اليوم أريد أن أتسمر أمام وجهك، أسمعك حتى ينصهر الصبح والمساء، أريد لو أهرب منك، لتبحث عني فيكون للقاء دهشته.. لذلك قررت يا حبيبي أن آتيك كما وعدتك..”.
تأخذنا الرواية إلى عوالم شخوصها الزمانية والمكانية بلغة سردية جميلة تميزت بالوضوح والعمق والدفق العاطفي، ولعلها كانت من أهم ما ميز الرواية، كما تعتمد الأسلوب المباشر منذ الحروف الأولى “العنوان” وحتى نهايتها، مبتعدة عن الغموض أو بعض الخيوط الخفية التي قد تزيد من حبكة الرواية وتصاعد الأحداث الذي يمنحها المزيد من التشويق الذي غاب أحياناً عن مشاهد الرواية.
في تجربة مختلفة اجتهد الكاتبان في توحيد رؤاهما والتجربة الشعورية لديهما، في محاولة ليست   سهلة على الإطلاق، ليخلقا لنا تجربة روائية متميزة، تحمل في طياتها الكثير من الحزن والألم والفقد، لكنها وفي كل مفصل من مفاصل حزنها تبشر بولادة جديدة وأمل جديد.
الرواية صادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب
وزارة الثقافة- عام 2016

هديل فيزو