ثقافة

الثقافة الوطنية وتعزيز ثقافة الحوار والانتماء

خاض المثقفون الوطنيون معارك شرسة ضد الفكر الظلامي شكلت ريفاً أساسياً في المعركة التي يخوضها جيشنا الباسل، وتأتي ندوة “الثقافة الوطنية ودورها في تحقيق النصر” التي تقام في مكتبة الأسد الوطنية احتفاء بيوم الثقافة السورية لوعي الحياة، ومن أجل التركيز على جوانب الثقافة الوطنية السورية بقيمها الوطنية القادرة على تحقيق الانتصار، وقد أشار وزير الثقافة محمد الأحمد أنه أثناء الحرب الشرسة على سورية والتي دخلت عامها السابع كنا مستهدفين ثقافياً قبل أي أمر آخر، والحقيقة عندما تستهدف الحجر تستطيع أن تكوّن بديلاً له، وعندما تستهدف أي مسألة تنموية نستطيع أن نوجد الحلول السريعة لها، ولكن عندما تدمر أثراً فمن الصعب أن ترد هذا الأثر إلى مكانه، وعندما تلمس هذه المسائل في بلدنا والبلاد المجاورة يكون هذا أكبر دليل على أن الثقافة مستهدفة، مضيفاً: هم يريدون الثقافة لذلك أستطيع أن أقول سورية انتصرت بفضل مثقفيها وكتابها وفنانيها، كما انتصرت بسواعد أبطال الجيش العربي السوري فهي بلد يستند إلى آلاف السنوات من الحضارة، ويستند إلى فعل ثقافي عريق ومقاوم ومتجدد باستمرار، مؤكداً نحن في يوم الثقافة نقول أن سورية انتصرت ثقافياً قبل أي أمر آخر.

بناء الإنسان
وفي يومها الأول ركزت الندوة على محور (دور الثقافة في بناء الإنسان المستقبل) وأدار جلستها الأولى  د.إسماعيل مروة والتي استهلها د. عاطف بطرس بالحديث عن “الانتماء من الغريزة إلى الوعي” حيث قال: الثقافة معرفة ومعلومات هي سلوك وعلى المثقف ألا يكون منارة معرفية فقط بل قدوة سلوكية وإلا خسر ثقافته ومكانته الاجتماعية ودوره الريادي، مشيراً إلى أن الثقافة الوطنية كما ينبغي أن نعممها هي المرتبطة بالمتطلبات الأكثر إلحاحاً فيما يتعرض له الوطن. ورأى بطرس بأن الإنسان ينتمي للأرض والوطن  بفطرته، وهناك من يقول أن كل إنسان يحب وطنه ولكن ثمة فرق واضح بين الشعور الغريزي والشعور الواعي الذي يجب أن يتحول من غريزة إلى إحساس وإدراك، وعندها يصبح أمامنا آفاقاً من أسئلة وضرورات بالعلاقة مع الوطن، مؤكدا أن الوطن ليس فقط الأرض التي نعيش عليها، بل هو أيضاً التاريخ واللغة والعادات والآمال وهو اختيار للهوية والثقافة، ثم نوه إلى أن للثقافة دوراً بارزاً وهاماً في تنمية الشعور الوطني وهو يتحدد براهنية القضايا المطروحة، ثم تساءل عن الحاجات الأساسية الراهنة المحددة لوطنية هذا أو ذاك؟ وحب الوطن هو العتبة التي نتساوى فيها جميعاً ولكننا نختلف في موقفنا من الوطن، وهناك معايير ثابتة لتحديد الوطنية وهو الموقف من الدولة التي تقوم على وحدة الوطن والنسيج الاجتماعي والمؤسسات القائمة في البلد، فالدولة هي مفهوم حقوقي معرفي ثقافي لا يمكن أن تلمس إلا بالعلاقة بين مكوناتها القائمة على التفاعل والتكامل، مبيناً أن العلاقة الجدلية بين المواطن والوطن هي تفاعلية تشاركية من الطرفين من خلال اتخاذ إجراءات تخدم مصلحته في بناء نسيج اجتماعي يعتمد على تقليل الفوارق الاجتماعية، ورأى بأن المهام الملحة في حقل الثقافة هي  تعزيز شعور الانتماء لمفهوم الدولة القائم على وحدة الوطن، ومسألة النسيج الاجتماعي من خلال إلقاء الضوء على المشاكل وإعادة عمار الإنسان.

ثقافة الحوار
وركز الأستاذ علي قاسم على “إشاعة ثقافة الحوار” لافتاً إلى أن العنوان يطرح في ثناياه الكثير من الإشكالات القائمة، ويرتكز إلى مفاهيم عامة استوطنت الحالة الاجتماعية وفرضت نفسها معياراً للخروج من الأزمات، وفيما يخص  كيفية إشاعة ثقافة الحوار، فإنه كما يبدو في الحال المعرفية أن من السهولة ما يسمح بإمكانية الوصول إلى الهدف مما يجعل الحاجة المعرفية ماسة لترميم جوانب النقص، أما السياق الاجتماعي باعتباره الحالة الناظمة والتعبيرية عن مخرجات الثقافة المعرفية والفكرية فيحتاج إلى معالجة خاصة وأدوات عمل تحددها الظروف أحياناً وتوقيت الإدراك لها، والأهم النظر ببعد شمولي انطلاقاً من المسلمة الأساسية التي تخطو باتجاه إنتاج ثقافة حوار والعمل على إشاعتها، وفيما يخص محددات ومرتكزات إشاعة ثقافة الحوار بيّن قاسم أن المحددات هي أن يكون للحوار هدف ولإشاعة ثقافة الحوار غاية ومرتجى وممارسة محكومة بفعل يشبه التأطير اليومي الذي يحدده السلوك وينتجه ويحقق انسجاماً، وكذلك يتعلق بالانحرافات التي تبدو بعيدة عن معنى ثقافة الحوار، لأن الحوار هو نتاج محاولات تيئيس غاياتها استفزاز المحاورين وإخراج النقاش عن أصوله، أما المحدد الأخير فيتعلق بصيغ إدارة الحوار، وأما الركائز فهي تتعلق بمدى مقدرتها على تشكيل قاعدة ثابتة قابلة للنقاش الموضوعي وتقتضي الفهم المتبادل والمنطقي للحوار، فهو حالة تمثل أقصى درجات المقدرة على الاستجابة للحاجات، وأخيراً يشغل المرتكز الإعلامي حيزاً واسعاً ويقوم بدور مؤثر، مشيراً أن ثقافة الحوار سلوكاً طبيعياً وبديهياً وحضارياً.

دور الثقافة
وفي مداخلة الشاعر بديع صقور “دور الثقافة في بناء الإنسان” أكد أن الثقافة أغلى الثروات وأبقاها على الدهر وهي من أكثر المفاهيم التي تتداخل مع غيرها، حيث تختلف معانيها باختلاف ظروف استخدامها، مما أدى إلى تشويش كبير في المعنى والعديد من التفسيرات والتعريفات ولذلك ماتزال الأبواب مفتوحة أمام كل جديد. ومما زاد في تعقيد المصطلح انتقاله من الاستخدام الفردي إلى الجماعي، بالإضافة إلى ظهور سياقات وتقسيمات عديدة للثقافة، ويمكن القول أن الثقافة هي الوعي المتراكم للمعارف البشرية ولها فرعان: علمي يتضمن العلوم التطبيقية، وثقافي إنساني يتعلق بتطور الفرد والمجتمعات البشرية.
وأضاف صقور: نستطيع القول أن الثقافة الاجتماعية هي اختراع بشري وتؤدي دوراً جوهرياً في بناء الإنسان وتطوير المجتمع وبلورة الوعي الإنساني، وللمؤسسات التربوية دور حقيقي في ذلك وبإيجاز نقول: إن الفارق نوعي وكبير بين المجتمعات الناضجة ثقافياً وتربوياً وبين المجتمعات المضطربة، وبذلك نقول بأنه لا ثقافة ولا تربية ما لم تتنقل من المثقف الفردي النخبوي إلى ثقافة المجتمع وقوة القواعد القانونية، ونحن بأشد الحاجة إلى مشروع تربوي ثقافي بعيد عن الأهواء والاتجاهات.

ثقافة وطنية
وابتدأت الجلسة الثانية بمداخلة (الثقافة الوطنية والنسيج الاجتماعي) للأستاذ عطية مسوح الذي تحدث عن أهم الإشكاليات التي أصابت مفهوم الثقافة الوطنية فهو في البداية كان يدل على الثقافة المناهضة للثقافة الاستعمارية، ولكن المفهوم ما لبث في الخمسينيات أن اكتسب دلالات إضافية ضيقت مساحته، وأولها الدلالة الطبقية التي أعطت الثقافة الوطنية مضموناً طبقياً، وأصبحت كل ثقافة لا تتناول الطبقة العاملة الكادحة خارج الثقافة الوطنية، وثانيها هو الاتجاه القومي العروبي الذي حصره بمضامين عروبية قومية، وأصبح كل مضمون لا يدعو للوحدة العربية ليس ثقافة وطنيه، وأما التضييق الأكبر فجاء من السياسيين العرب الذين أرادوا من الثقافة أن تتفق مع سياستهم، واعتبروا الثقافة الموافقة لهم وطنية والمخالفة غير وطنية، مما جعل الثقافة الوطنية محدودة الأثر، بل ضعيفة، وتم إلحاق الأذى بالثقافة العربية الحديثة، مما دفعنا للتفكير بما سمي (ضرورة إعادة بناء الثقافة الوطنية) عبر خمس نقاط هي الانتقال من الأحادية إلى التعددية ونشر ثقافة الاختلاف وقبول الآخر، وتوسيع طيف مفهوم الثقافة الوطنية ليشمل كل ما يعزز الذوق الجمالي، ونشر الثقافة العصرية الحديثة والربط بين الوطنية ومحاربة التخلف وفتح الأبواب أمام الثقافات العالمية والخلاص من وهم النقاء الثقافي، وتعزيز نزعة الشك المعرفي لدى الجميع، وأن تنطلق الثقافة من مبادئ المواطن والتركيز على المثقفين لتقوية وحدة المجتمع وتعزيز الانتماء للوطن، ورأى مسوح بأن هناك تناقضاً في علاقة الثقافة والسياسة ضمن ثلاثة مستويات، وينطلق التناقض الأساسي من طبيعتهما، بينما ينطلق التناقض العملي من أساليب كل منهما، أما التناقض الإضافي فهو ناتج عن طبيعة النخب السياسية والثقافية، مؤكدا أنه إذا تم استدراك التناقضات ستصبح العلاقة متميزة.

إعادة الثقة
ويرى الأستاذ محمد البيرق أن الدولة والمجتمع اليوم بحاجة ماسة لإعادة النظر في علاقتها مع المواطن، ولنتفوق في تحقيق معادلة “العقد الاجتماعي” الذي لن يكتفي بتعزيز فكرة المواطنة يجب العمل على إيقاظ روح الانتماء لبلد أرهقته الحرب، وذلك يأتي من خلال الاجتهاد بالعمل المؤسساتي وتفعيل عمل منظماتنا التي تضم المواطن الطليعي وتبقى معه حتى يصير نقابياً، ومن ثم ننفذ المشروع الوطني للإصلاح الإداري ليكون البنية الأساسية في بناء الثقة بين المواطن والمؤسسات الحكومية، وبين البيرق أن الأسباب التي خلقت الهوة الكبيرة بين المواطن والحكومات كثيرة منها انتشار قضية الفساد وتكرار إطلاق التصريحات التي لا تنفذ على أرض الواقع، والتي تشكل تربة صالحة لاتساع حدقة التشكيك بالمؤسسات الخدمية، وتعدد الجهات الرقابية المسؤولة عن تقييم الأداء وفقدانها لمصداقيتها، ثم طرح حلولاً تعمل على إعادة الثقة ما بين المواطن ومؤسساته مثل: ضرورة البدء بتحفيز الشعور بالمواطنة والولاء والعمل بروح الجسد الواحد، وملاحظة النقاط الأساسية التي تهم المواطن والتعامل معها بشفافية، وتقديم أفضل مستوى معيشي وأولى العمليات هي مسألة إصلاح الرواتب والأجور حسب المستطاع، وإصلاح النظام الضريبي ومنه نستطيع تطويق الفساد وتحجيمه، وهذا يتم أيضاً بمساعدة من الإعلام والتأكيد على دور المكاتب الصحفية حيث يجب التعامل بتشاركية مع المؤسسات الحكومية الناطقة بخدماتها، وأن يكون الإعلام الجسر الشفاف الواضح ما بين الحكومة والمواطن، فالمواطن السوري يثق بالدولة لكن لا يثق كثيراً بمؤسساته.

الفكر النقدي
وحملت مداخلة د. عبد اللطيف عمران عنوان”ترسيخ  ثقافة الفكر النقدي” إذ قال:  الفكر النقدي كثقافة موجود لدينا في رفوف المكتبات وفي جلساتنا الخاصة، فالمجتمع السوري مجتمع نقّاد وتضفي عليه مظاهر التعدد والتنوع الحزبي والاجتماعي والعرقي والديني حيوية وقيمة معرفية، مبيناً في الوقت نفسه فإن النقد فيه ينوس بين الواجب والنزوع من جهة، وبين حرص المجتمع على الانسجام والعيش المشترك في ظل التحديات من جهة أخرى، ثم تساءل د. عمران إذا كان النقد كممارسة مسؤولة وعلنية ومنهجية موجودة بالمستوى المطلوب نظرياً وعملياً، فهل تقوم المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية والحزبية والمنظمات بالمراجعة النقدية المطلوبة؟ إنه لسؤال مهم وأساسي ويتصل مباشرة بمسألة الحرية والديمقراطية، وإننا لاشك بحاجة ماسة إلى تفحص الإجابة على هذا السؤال الذي يمكن أن يعد في سياق المسائل المصيرية، لافتاً إلى وجود مفارقة حادة على سبيل المثال بين المقترحات والتوصيات والبيان الختامي والهدف والجدوى من جهة، وبين النتائج من جهة ثانية في أي عمل وطني أو عربي مشترك سواء في المسائل السياسية أو الثقافية وغيرها، منوهاً أنه من جهة لازلنا نعمل وفق منطق المسلمات التي لا يؤمن بها الفكر النقدي، ومن جهة ثانية لا توجد لدينا القدرة على المحاكمة العقلية والممارسة الديمقراطية للنقد، مؤكداً أن الفكر النقدي موجود بين جوارحنا ولكن تجلياته مؤسساتياً محدودة وضيقة، وآية ذلك النأي بالنفس عن البحث أو الحديث عن قصور العامل الذاتي وتعويض ذلك بالاطمئنان واللجوء إلى نظرية المؤامرة التي تعفينا من الاجتهاد المنطقي، والحل هو بالفكر النقدي كممارسة وفعل، موضحاً أن الفكر النقدي الذي نقصده هو بنّاء وعلمي وغير مؤلم، وهو أصيل في الفكر الاشتراكي، وهو العملية العقلية النشطة والمتقنة لاتخاذ القرار، والتي يجب أن تعتمد على التحليل والاستدلال والتركيب والاستنتاج، ومن مستلزماته – كما بين د.عمران- الثقة التي لا تناهض الشك  والتواضع الفكري والانفتاح على الآخر وتجاربه، مؤكداً أننا اليوم في زمن أحوج ما نكون فيه إلى تطبيقات هذا الفكر على أرض الواقع التي لم تعد صلبة، ومبيناً أن الفكر النقدي بحاجة إلى ترسيخ أولاً والى تنمية وتطوير ثانياً، وإلى متلق إيجابي وفاعل وقادر على الفرز والتمييز واتخاذ القرار، وختم حديثه بطرح سؤال غاية في الأهمية: لو كان الفكر النقدي راسخاً في مؤسساتنا وفي سورية وباقي الأقطار لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه؟ والجواب طويل ومتعدد، ولكن بالعموم رسوخ ثقافة الفكر النقدي وممارسته يجنّب المجتمعات العربية غريزة القطيع الحارقة.
لوردا فوزي- علا أحمد