ثقافة

السيرة الذاتية والتآكل

هالا مرعي

هل جربّت أن تأكل نفسك بحميمية؟ الكتّاب يفعلون ذلك كي تنجح العملية الإبداعية، وتنجح كتبهم.
عندما نمسك أي كتاب، لا يتوقف البحث عن ذات الكاتب فيه، حتى أن القارئ يتتبع أثره، وكأنّه يجمع قطعاً من البازل ليصل إلى الشخصية الأقرب إلى روح الكاتب أو معتقداته، محاولاً أن يفهم إشارات تلك الذات التي تقف وراء ذلك  العمل الأدبي، مقولتها، قضيتها، وقد ينجح الأمر، أو لا ينجح.
ما يلزم لكتابة السيرة الذاتية هو الجرأة في رصد انكسارات الذات، إخفاقاتها، ضعفها، نجاحاتها، قوتها، اضطرابها، أي أن تسير وراء شياطينك، الأمور التي حثتك على الكتابة. يلزم تربة مناسبة لذلك، أيُّ مجتمع يقبل الحقيقة، الحقيقة وليس الزيف. قد يسبب هذا في كسر الصورة المجتمعية للكاتب أو صنميته، فيبقى بين أمرين، إما أن يكتفي بشحن الشخصيات ببعض من ملامح الذات، فيبدو مقنّعاً وراء الخوف من قول الحقيقة في مجتمع لا يقبل الفردية والخروج عن السائد، وبالتالي يقوم بخيانة السرد أو يكتب سيرة وكأنّه ملاك، عصامي، مجتهد، مكافح، مميز.
يذكر الكاتب البيروفي “يوسا”، أن أصل كل القصص ينبع من تجربة من يبتكرها، وأن الروائي يتغذى على نفسه، أي أن الكاتب يقوم بالنبش في تجربته الحياتية الخاصة من أجل أن يبتكر قصصه، وهنا يذكر “بروست” كمثال عن ذلك في عمله “الزمن المفقود” حيث رصد تحولات حياته وحياة أسرته وأصدقائه وعلاقاته عن طريق النبش في الذات. فهل الرواية هي كذبة تحاول أن تكون حقيقة؟.
يقول الروائي “أمبرتو إيكو”، أن كل رواية هي سيرة ذاتية، ويضيف موضحاً،  نعطي هذه  الشخصية جزءاً منا، من حياتنا الخاصة، وتلك جزء آخر، فلا نكتب السيرة الذاتية بشكل مباشر، ولكن الرواية تصبح متضمنة لها.
إن حضور الذات أو العنصر الذاتي في السرد، أو في مكونات المتن السردي للأثر الأدبي يحدث دوماً، والتجارب الذاتية هي مكونات جزئية في عالم متخيل شامل، وفي الرواية العربية كثير من الأمثلة على ذلك، كرواية “زينب” لمحمد حسنين هيكل، و”الأيام” لـ “طه حسين”، و”عصفور من الشرق” لـ “توفيق الحكيم”، وبقايا صور لـ “حنا مينه”، وآخرون كالطيب صالح وعبد الرحمن منيف، كانت رواياتهم هي إعادة بناء لتلك التجارب الذاتية التي تتصل بقضاياهم ومعاناتهم وهمومهم، فكانت هذه التجارب الوجدانية محاور تستند عليها تلك الأعمال، أي خلفيات، فمازجوا بين المكونات الذاتية، والمكونات التخيلية في إنتاج تلك السير الروائية. جاءت بعض تلك السير بلا ادعاء أو غواية، فاقعة، كما رآها البعض فيما اتصل بقضايا مازالت تشكل هاجساً لدى القارئ العربي،  وبعضها الآخر اتبع المواربة والترميز، هرباً من اللوم والنقد.
إن السيرة الذاتية هي استثمار تجربة ما وعرضها سردياً، وهي نبش في الوعي عما يقلق الروائي حول قضايا كثيرة، كل حسب هواجسه، مجتمعه، اتجاهاته الفكرية والعقائدية، وان تكون سرداً نثرياً يتمحور حول الذات، فالذات الإنسانية واحدة.
وما الإبداع إلاّ تآكل، قضم الروح، وهندسة للمواقف في الحياة المعاشة التي هي ينبوع كل إبداع، وقصص متخيلة مرتبطة بالتجارب الحياتية للمبدع.
والسؤال: أحقاً يقي الأدب من التعاسة؟.