ثقافة

بصيص الأمل

حل الصباح ندياً، انطلقت صرخة عصفور صغير لتتبعها صرخات وزقزقات كثيرة، معلنة بدء يوم جديد.. نهضت لترفع الستائر كي تجعل المكان مضيئاً.. فاجأها صراخ قادم من الداخل أن تعيد الستائر وتكف عن الإزعاج.. أحست بالغربة تسري في كيانها حتى في تفكيرها، شيء ما جعلها في رغبة ملحة للبكاء.. أهو بسبب الغربة التي تحسها أم هو ذاك الصراخ الذي فاجأها.. اتجهت لتجلس على الشرفة، نظرت حولها، أحست بشيء غريب يضغط على صدرها فيطبق على نفسها، نهضت لتقف وهي تراقب الطريق الذي بدا طويلاً موحشاً تطأه أقدام بدت مجهولة، تحول ذلك كله إلى أشباح غريبة تخيلتها، دخلت مسرعة وأغلقت الباب، اتجهت نحو غرفة الجلوس، سمعت رنات الهاتف وقد تسللت إلى مسمعها لتعيد روح الابتسامة إلى وجهها، ركضت إليه ترفعه وسمعت صوت أمها الذي افتقدته آت من بعيد عبر ذاك الجهاز، لم تستطع أن تجيب وقد تسابقت دموعها على وجنتيها، مضت نصف ساعة وهي تتحدث مع أمها، شعرت بذلك ثانية بلمح البصر، مضى يوم ليتبعه يوم ويوم، مضت أيام وهي على تلك الحال، الروتين نفسه، صدرها لم يعد يتسع لمزيد من الحزن والغربة، نفسها لم تعد تطيق ذاك المكان، زوجها لا يكترث إلا لعمله، يذهب ويجيء غير آبه بها وكأنه تزوجها ليضعها في البيت شأنها شأن قطعة أثاث فخمة مكملة زينة بيته، الملل والحيرة في كل زاوية، ماذا تستطيع أن تفعل؟ تسرح بأفكارها للحظة، حين يعود في بالها بعد المسافة بينها وبين أمها يضيق بها المكان، تتطاير الدموع تنهض مذعورة لتقف أمام النافذة، ماعساها تفعل؟ تخرج، لا لن تستطيع فتح الباب الذي تتخيل خلعه أناس مجهولين غرباء لا تعرف أحداً منهم.. تقف، تمشي، عيناها مشدودتان نحو النافذة، إلى الطريق الذاهب والآيب من الناس ثمة شيء يخبرها أنها تنتظر شيئاً، هي نفسها لا تدري، تذهب وتعود إلى تلك النافذة، أصبحت تحيرها، لماذا تبقى واقفة عندها؟ فقدماها تسيران وتسيران ثم تقفان عند النافذة، ترى أشجاراً تتمايل مع النسمات، أزهار متسلقة على الجدران تحمل أزراراً وأزهاراً متفتحة، ترى أطفالاً يركضون ويلعبون، يقذفون الكرة، يقفزون ضمن مربعات رسمت، تقفز معها الضحكات لتغطي المكان، تبتعد عنها، لا ترى سوى نفسها عائدة إليها، ربما هي التي تأخذها رحلات ونزهات، ربما هي التي تدخلها وتخرجها إلى العالم، أو ربما هي العين التي ترى بها الدنيا، لتنسيها الحال التي هي فيها، لتنسيها حظها العاثر الذي قادها لتكون في ذاك البيت، لم تستطع فعل شيء سوى الوقوف أمام تلك النافذة تنتظر زوجها حتى يعود من عمله، واضعة كل آمالها وأحلامها الجميلة في عودته كي يكلمها، لكنها لم تحصل على جزء من كل ذاك، فإذا ما عاد يوماً مبتسماً على غير عادته، يجلس هادئاً يطلب ويأمر بكثرة مستغلاً طيبتها ورغبتها في الحياة الهادئة حتى تخرّ قواها، يبقى أياماً على تلك الحال، ليعود ذاك النزق البخيل فاقد الإحساس وكأنه شخص آخر. يأتي الصباح.. صباح آخر يشعرها بالملل، تتردد إلى مسامعها  رنات جرس الباب، هرعت مسرعة، جمدت مكانها من الدهشة حين فتحت الباب ورأت أحب الناس إلى قلبها أمامها، ذهلوا لشحوبها، لامست خدودها يداً حنونة أعادت الابتسامة إلى شفتيها، تحرك جمودها حين شعرت بلذة اليد الحنونة، أمسكتها وراحت تقبلها برغبة شديدة بالبكاء، حين رأت الشفقة في عيونهم، نظراتهم تنهش بقايا قلبها المحطم، كبرياؤها منعها من طلب أي شيء، قطار الأيام يمر مسرعاً فإذا ما توقف في إحدى محطاته كانت ذكرياتها المخملية.
حل اليل، نظرت إلى الساعة المعلقة على الحائط، بدت قلقة لتأخره، بدأت الوساوس تناوش رأسها، أين يمكن أن يكون، إنها في شوق كبير كي تراه هذه الليلة كي تزف خبر حملها الأول عساه يغير أسلوب معاملته معها، أو ربما سيصهر الجليد الذي تكون في قلبه، نعم ربما ذلك سيبعث الدفء في قلبه، سيجعله إنساناً آخر. حصل ذلك ربما لشهور قليلة مرت بلمح البصر، عادت إلى عادتها في الوقوف أمام النافذة وعيناها تشردان في الخارج، لم تكن وحدها هذه المرة، بل طفلها في حضنها، أحست أن الشوارع امتلأت بالأضواء التي طغت على سواد ذاك الليل، أضواء وأضواء، تجرأت كي تفتح باب شرفتها، ربما استمدت قوتها من ابتسامة طفلها الرضيع في حضنها دفعت الباب ليفتح، زاد انبعاث الأضواء التي سحرتها وجذبتها،  اقتربت من حافة الشرفة، فاجأها، بل أذهلها منظر تلك الشجرة التي التفت بثوب طويل من الأضواء الملونة، أحست بنشوة تسللت إلى قلبها، راحت تهز ابنها بفرح بين يديها، فاليوم عيد، إنه أول ميلاد لها مع ذلك الطفل الجميل، إنه بصيص الأمل الذي أعاد لها الحياة.
تغريد الشيني