ثقافة

الأمن الفكري بين حماية الوطن و “التطرف الديني وأثره في الأزمة”

“ضوءٌ من ضوء” المحاضرة الفكريّة القيّمة التي رعاها رئيس مجلس محافظة طرطوس  في مبنى المحافظة ياسر ديب وقدَّم لها الأديبان نزار غانم وعلام عبد الهادي تحت عنوان: “التطرف الديني وأثره في الأزمة” وحاضر فيها العلامة محمد علي يونس.
حين تستحوذ علينا وقائع المشهد العربي والإنساني قرائياً، لا نعمد إلى الارتهان لها على طول لحظات المقاربة، رغم أنها قد تبدو امتداداً – من خلال القراءة الأولية / المباشرة.
ومن خلال متابعتي لسرد المحاضر محمد علي يونس داهمتني أسئلة كبرى تتضمن  جوهراً لأجوبة تصلح استهلالاً لكتاب واحد  صفحاته بعدد حبات تراب الوجود وكلماته بحر لا يدرك قعره، وكنز لا ينفذ ذهبه. واليوم نعيش في العالم العربي والإسلامي تحت وطأة تنامي ظاهرة التطرف والتعصب، فهل هو نتيجة هزيمة كبيرة للتفكير الديني الوسطي، أم أنه نتيجة حتمية  لمصادرة حق الاجتهاد وتكفير الآخر؟ هل لأن المجتمع العربي والإسلامي عاش ويعيش تحت وطأة حق القوة وليس قوة الحق على المستويات الإنسانية والوطنية والدينية مما خلق بيئة حاضنة للتطرف والعنف؟
لقد أُتخمت بطون التاريخ العالمي والعربي بجرائم التطرف الفكري والتكفيري وتشهد على مذبح الكون كيف عمل ومازال يعمل المستعمر منذ القدم على خلخلة الثقافة القومية، بما يبثه من أباطيل وأكاذيب تمثلت أحياناً بإحياء النعرات الطائفية، أو ترويج الثقافة الغربية، أو تزييف الحقائق التاريخية..
من هنا، يمكن تعريف الدين  كما عرفه قول النبي محمد (ص) في الحديث الذي أورده مسلم في  صحيحه حين سأل عن ماهية الدين فقال: (الدين المعاملة)، أي انه الأثر الإنساني الذي يتركه الفرد على المجتمع الذي يعيش فيه، والمشكلة تكمن الآن في محاولة البعض زج الدين في جميع ميادين الحياة ومنها السياسية، وإسقاط عصر التنزيل على كل العصور والأزمنة اللاحقة، ما احدث شرخا كبيرا بين النظرية والتطبيق، وأسيء للدين عن قصد أو  غير قصد من قبل الكثير من المنظرين والدعاة ورجال الدين من خلال محاولتهم تطبيق أساليب القرن الأول الهجري في إدارة مفاصل الحياة في وقتنا الحاضر، وهذا شيء مخالف للعقل والمنطق.
رحل بنا المحاضر “من  تشكل نقطة الباء الأولى وغامر في رحلة دائرية عبر مركب الوجود الإنساني في حضرة الحقيقة الصعبة، ولم يتمكن من إغلاق الدائرة بسبب تشويه أهل الفكر المتطرف للمفاهيم والمصطلحات والحقائق التاريخية والدينية.
وأظهر المحاضر كيف أدت الثقافة الغربية إلى بروز الفردية والأنانية لدى أفراد المجتمع حتى فقد الفرد غريزة الانتماء إلى أمته ومجتمعه، وأصبح يتردد بلا هوية، وانعكس أثر ذلك على الأدب، حيث شاع في مجتمعنا العربي أدب اللامعقول الذي يعكس مدى القلق والغربة التي يعيشها الإنسان العربي جراء صخب المدينة المتواصل الذي أفقد المجتمع ضرورة العلاقات الاجتماعية وإنكار الذات.
يدرك المحاضر وبقدر كبير من الوعي أن الوطن العربي يواجه أزمة ذات طابع مركب، لكونها أزمة فكر وواقع معاً شملت مختلف المستويات الثقافية والاجتماعية والسياسية، ومثّل الفكر أهمية خاصة ضمن هذا الطابع نظراً لدوره المحوري فيها، سواء على صعيد خلق الأزمة أو صياغة الخروج منها، والتاريخ شهد منذ القدم على الكثير من العقول البشرية التي لا تدرك الحقيقة إما بسبب القصور في الفهم والوعي أو لعدم الإيمان بالمسؤولية المجتمعية الوقائية، فكان الاضطراب والتفجيرات والقتل والتدمير، الذي أحدث خللاً في الأمن الحسي الإنساني. ورغم هذا، لاحظنا ثمّة خلافات كثيرة بين المفكرين في تعريف التطرف ومقاربة مفهومه بالتحليل والدراسة تاريخياً.
وبحساسية فكرية أكد المحاضر يونس على  تصاعد الفكر التكفيري وتزايد الإرهاب بأنواعه رغم اشتداد الخلاف حول مفاهيم الآخر/ المتطرف/الحقيقة .. وتحديد ماهيته وطبيعته في ضوء المذابح الجماعية والإبادة تحت شعارات لا تمت للإسلام وللتعاليم السماوية بصلة. إلا أن هذا الصراع الفكري الإشكالي في وقائعية المشهد يغري بالبحث والقراءة التي تتجاوز حدود هذه الوقائعية المؤطرة زمانا ومكانا. ويعد من التحديات الكبيرة التي يواجهها العالم العربي هو الغزو الثقافي الذي أوجد مناخاً يتسم بالصراع الفكري الذي يجر إلى نتائج وعواقب خطيرة على مقومات الأمة وحضارتها، وظهور رأي دخيل على المجتمعات، لذلك يجب بذل الجهود في تأمين الفكر والأمن له، وإتباع  سياسات واضحة المعالم لحماية الأمن الفكري للشباب لتأمينهم ضد مخاطر التيارات الفكرية المنحرفة مهما كانت المغريات أو الدوافع.
وعلينا الإشارة أن الشعب في ظروف الأزمات والمحن يحتاج إلى صوت الحكمة والعقل لمواجهة الغرائز والتوحش والجهالة، لكن عندما تجد وطنك تشن عليه حرب كونية ويذبح به الشعب من الوريد للوريد تحت شعار الله أكبر وأنت السوري الذي ترعرع على نهج أمير الكلام من خلال قوله المأثور:
“إن لم يكن أخوك في الدين فهو أخوك في الخلقة”. هل استطاع هذا الشعار على مدى قرون أن يبيد العنصرية والطائفية؟
لقد تعلمنا في المجتمع السوري الإسلامي المعتدل أن نكون دعاة بالحكمة والموعظة الحسنة وان نكون أهل الحوار مع الآخر والرافضين للظلم والمقاومين للاستعمار والإرهاب وتكفير الآخر وعشاق الشهادة أو النصر.
علينا جميعاً أن ننضم للناس المؤمنين بالشراكة الروحية لأنها مفتاح القلب وعطاء غير مشروط يعبر فيها الإنسان عن محبة وغيرية قادرة أن تصدّع الإيديولوجيات والأحكام المسبقة، وهذه الشراكة يجب أن تبدأ مع الإنسان منذ طفولته لأنها الفطرة التعبيرية الأولى  لعلاقة الإنسان بالآخر الحب /الوجود، وهنا يبرز دور التربية في تكوين الإنسان، لأن الطفل الذي لا يعيش علاقة محبة وتسامح وإيثار، ينشأ وحيداً شارد الذهن ومنطوياً على ذاته. في حين أن الطفل الذي يحاط بالمحبة والأمان ينمو إنساناً يشعر بالحرية والاستقلال وتحمل المسؤولية.
ومن المؤسف أن جُلَّ الوعي السائد في مجتمعاتنا العربية حول الطائفة والطائفية يأخذ صورة غرائزية تنطلق من المبادئ الشمولية، ويركن إلى أحكام كلية تفتقر إلى أدنى مستويات العقلانية والموضوعية. إنه وعي طائفي بامتياز وهذا هو الذي يصنع الآخر الطائفي في مربعات الإدانة والاتهام والتبخيس المطلق. وفي هذا المستوى تكمن المهمة العضوية والتاريخية للمفكرين والباحثين في ترسيخ هذا النوع من الوعي الموضوعي بالطائفة والطائفية والمذهب والمذهبية على حساب الوعي الذاتي القائم على المطلقات الحسية الغريزية المعادية للآخر والمنادية بإزاحته ..
وهناك رأي يقول: اغتراب الدولة عن المجتمع يشكل الحافز القوي في تأصيل الطائفية وعودة المجتمع على تكوينات ما قبل الدولة، طائفية كانت أو مناطقية أو عشائرية.
نِعَمُ الله لا تُحصى والنعمة الكبرى التي أمرنا الله بها هي امتثال لأمر عظيم صريح جلي في كتاب الله تبارك وتعالى، في آيٍ كثيرة، فالله تبارك وتعالى يقول: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)[آل عمران:103]
عندما نعمل على إعمال العقل  والتفكّر والتدبر والتعقّل والعمل بالتنزيل الكريم يمكن للذي نعتقد أنه مستحيل أن يصبح ممكناً، إذا أدرك كلّ إنسان أن العمل للسلام يجب أن يبدأ من عنده أولاً. وإذا اعترف بإنسانية الآخر وبالطابع المقدّس لكل فرد مهما كان وضعه الاجتماعي أو الاقتصادي أو الفكري فمع هذا اليقين يتحقق اليقين بضرورة السلام.
وختام القول: هل نحن قادرون على تحويل الدين من دين يحاول المتمسكون به أو المدعون ذلك أن يتحكموا بمقدراتنا وأرواحنا وأرزاقنا إلى منظومة فكرية وإنسانية تعمل على بناء الإنسان روحيا وأخلاقيا وسلوكيا بما يتلاءم مع متطلبات العصر الحالي حتى نستطيع مواكبة باقي الأمم في سيرها نحو الرقي والازدهار بدلا من السعي لسحبنا إلى الخلف والعودة بنا إلى المربع الأول ويبقى الإنسان العربي يراوح في مستنقع الإرهاب الفكري ويعاني من أورام التطرف الديني.

أحلام غانم