اقتصاد

بعيداً عن النظريات الاقتصادية وما تحمله من مبادئ تحريرية

العودة لنظام التسعير المركزي في ضوء معطيات المرحلة.. خطوة نحو الإصلاح والتحديث الاقتصادي
مؤكد أن متديني ومتوسطي الدخل من مستهلكينا لم –وربما لن- يأبهوا يوماً بالتيارات الفكرية الحديثة في الاقتصاد التي تنحو منحى الليبرالية الاقتصادية القائمة على مبادئ مثل (دعه يعمل دعه يمر، دع السوق يتنافس، ودع البقاء للأكفأ)، وغير ذلك من المبادئ الاقتصادية الداعية لتحرير الأسعار وتحديدها عبر التنافس الحقيقي الشريف في السوق الذي لم يتحقق في سوقنا لأنها لم تكن مؤهلة لاستقبال هذه المعطيات، فما يهمّ مستهلكنا خاصة في هذه الفترة بالذات التي تشهد فلتاناً غير مسبوق بالأسعار هو شراء السلع والمواد بالسعر الحقيقي، بعيداً عن النظريات والأنظمة الاقتصادية الداعية إلى التحرّر والانفتاح الاقتصادي في ظل اعتماد العالم لاقتصاد السوق، وتبني اقتصادنا لهذا التوجّه خشية أن تلفظه الاقتصادات العالمية، وإعطاء القطاع الخاص دوراً كبيراً في عملية التنمية الاقتصادية كي يكون شريكاً لنظيره العام، لتكون النتيجة تحرير الأسعار لدرجة أرهقت المواطن وجعلته فريسة سهلة المنال لحيتان السوق الذين نصّبوا أنفسهم أسياداً لاقتصاد سرعان ما تركوه هاربين لحظة الحاجة الفعلية لهم، بعد ما عمّروا من خلاله خزائنهم لينمّوا بها اقتصادات أخرى.

فشل
لعلّ الأزمة الحالية أظهرت فشل نظام السوق السائد وعدم قابليته للاستمرار، وأكبر مُشعِر أظهر هذه التغيّرات هو نظام التسعير الذي تُرك لمزاجية التّجار تحت ذريعة تحرير التجارة واعتماد اقتصاد السوق، وكانت النتيجة ابتعاد السعر عن الواقع والانفلات عن السوق ليتحرك في فضاءات بعيدة عن واقع الاقتصاد السوري، في ظل احتكارات باتت ملموسة للقاصي والداني رغم وجود ما يسمّى (هيئة المنافسة ومنع الاحتكار)، ما يستدعي بضرورة العودة لنظام التسعير المركزي الذي كان سائداً قبل سنوات، لأسباب تتعلّق بالدرجة الأولى بتحديد سعر حقيقي يضمن حقوق التاجر والمستهلك بآن واحد، ويمنع بالنتيجة شبح الاحتكار ويوفر السلع والمواد في الأسواق بشكل مستمر بدلاً من بقائها في مخازن أباطرة السوق وحيتانه.

ضد المنافسة..!
أحد المعنيين الرسميين أكد أن العودة إلى نظام التسعير بما له وما عليه يفرض نفسه كحلّ أفضل بكثير من حالة الفلتان والتشوّه السعري الرهيب الذي شهدته السوق السورية في الفترة السابقة والحالية، خاصة وأن السوق السورية أثبتت أنها لا تقبل وجود منافسة حقيقية شريفة كونها تحوي ما يسمّى بـ(احتكار القلة) الذي وُجد نتيجة حالات الفساد والترهل المؤسساتي والإداري، ما جعل الأسعار تحلق بعيداً عن المعطيات المادية، مضيفاً: إن العودة لنظام التسعير سوف يفرض على الدولة القيام بمسؤولياتها، وهذا لا يعني محاربة القطاع الخاص، وإنما تقليم رؤوس الاحتكار ورموزه، الذين امتصوا القدرة الشرائية للمواطن البسيط بغير وجه حق، معتبراً أنه العودة لمنطق الصواب، ومنطق الشراكة الحقيقية ما بين العام والخاص، والأهم من ذلك هو الالتفات إلى الطبقات المتوسطة والفقيرة وتحقيق العدالة الاجتماعية.

تربية تراكمية
يرى بعض المراقبين أن الظرف الحالي يفرض على الحكومة إطلاق يد القطاع الخاص في استيراد وتأمين المواد الأساسية، وبالتالي فإن له حق تحديد الأسعار خاصة وأن عمليات الشحن إلى سورية باتت محفوفة بالمخاطر من وجهة نظر شركات النقل، ما يزيد من أعبائه وتكاليفه المادية، وبالتالي له حرية تحديد هوامش الربح التي يرغب كي يستمر بتوريد وتغذية السوق بما يلزم من مواد وسلع أساسية، لكن المسؤول الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه اعتبر أن هذا الأمر من النظريات الشائعة، داعياً إلى ضرورة أن يكون هناك حسم اقتصادي لتبديد الخوف من هذه الألعوبة التي طالما حاول بعض المتنفّذين الإقناع بعدم استطاعتهم الضغط على القطاع الخاص خشية امتناعه عن توريد وتغذية السوق بالسلع والخدمات، كونه الممسك بزمام تزويد السوق وبالتالي يمتلك حق التسعير، مشيراً إلى أن الخشية من القطاع الخاص جاءت نتيجة تربية تراكمية لمتنفذي السوق الذين استطاعوا الوصول إلى بعض أجهزة السلطة للحصول على قوة احتكارية مدعومة من جهات حكومية، وبالتالي أصبحت هناك خشية من التصدي لهم ومحاسبتهم في السوق، علماً أن تجارنا لا يعملون في كوكب آخر، بمعنى أنه يمكن للدولة متابعة إجراءات وصول السلع من البلد المُنتِج عبر المورد والتدخل لتحديد السعر الحقيقي العادل.
ومن فضائل العودة إلى نظام التسعير هو المحافظة على أية زيادة محتملة للرواتب والأجور وعدم امتصاصها من قبل تجار الأزمات، فمن المعروف عن السوق السورية –برأي المسؤول– أن كل زيادة للرواتب يرافقها ارتفاع للأسعار أعلى من نسبة الزيادة، ما يعني ضرورة تمهيد الأرضية لأي زيادة جديدة عبر ضبط الأسعار، بغية عدم إفراغ محتواها.

تغاضٍ؟
ربما لا نبالغ بقولنا: إن الواقع يستدعي التغاضي –ولو مبدئياً- عن اقتصاد السوق والعودة الفورية إلى التسعير، ففي زمن التسعير لم يكن المواطن يشعر بغبن الأسعار كما هو حاصل اليوم، نظراً لغياب الاحتكارات، وتوازن آلية العرض والطلب، أما الآن فالخلل هو سيد الموقف سواء من ناحية العرض والطلب، أم من ناحية فلتان الأسعار، وبالنظر إلى التجارب الاقتصادية العالمية يتبيّن أن أعتى مواطن الرأسمالية اضطرت للتدخل في أسواقها وإعادة النظر بنظام تسعيرها بهدف الحفاظ على أمنها الاقتصادي، بعد أن كان هذا الأمر من المحرمات، وبالتالي فإن واقع الحال لدينا يفرض على الحكومة النظر بحال أسواقنا وإن كان هذا على حساب نهج اتخذناه سبيلاً استراتيجياً لتطوير وتنمية اقتصادنا الوطني، ولعلّنا لا نجانب الحقيقة بقولنا: إن العودة لنظام التسعير الإداري يعدّ خطوة نحو الإصلاح والتحديث الاقتصادي –على الأقل في هذه المرحلة الحرجة- ولا ينبغي النظر إلى هذه الخطوة على أنها حلقة منفصلة من حلقات التنمية الاقتصادية، بمعنى ضرورة وضع أسس جديدة للاستيراد والتصدير، ودراسة التكاليف، ومتابعة كل الإجراءات المتعلقة بوصول السلعة للمستهلك بسعرها الحقيقي، بحيث لا يبقى موضوع التسعير على ما هو عليه حفاظاً على أمننا الاقتصادي.

دمشق– حسن النابلسي