ثقافة

خبرني العندليب

تمام علي بركات
فلسطين.. آه يا فلسطين، كم  بهتت حروف اسمك أيتها العزيزة، كم أنهكتك الشعارات والمؤتمرات والقمم بينما أنت تجلسين كعجوز تدفئ عظامها على  حجر له بشرة مشققة كبشرتك، إلا أنه راسخ مثلك، تمر به الزلازل والأعاصير والخيانات وهو متكئ أبدا على كتف الزمن، وبين شقوقه نبتت أعشاب نيسان يانعة وطرية.
كم شردتك القصائد وغرر بك الشعراء يا فلسطين، وساوم على جلدك المثقفون المبشرون بعزم خائب كضمائرهم، كم جردتك الأغاني من ثوبك الأصيل، خالعة عليك أسمالاً تحمل أهم الماركات العالمية التي تبيع النمور والثعالب والأفاعي أيضا كحقائب وأحذية، وها هي الفضائيات النفطية لا تنسى أن تضع وردة في عيدك لذرّ الرماد، بينما المسامير لا تزال تسعى لتكمل النعش.
“فلسطين” أعيد الاسم وأكرره بصوت عال، استمع إلى صوتي كمن يستمع إلى نحيب عميق ومتقطع: فلسطين فلسطين فلسط..، تغيب الأحرف بمعان حائرة وإيحاءات ملتبسة، ليضيع الصوت رويداً رويداً وكأنني كنت أنادي عليها من عالم آخر، أو ربما هي كانت لا تزال على جلستها، تدفئ عظامها التي هرمت ولكن في عالم آخر.
فلسطين التي بقي اسمها يكتب في محاضر جلسات المؤتمرات العربية ويشطب في أروقة المؤتمرات العالمية، فلسطين التي أنذبحت حناجر المحبين وهي تنادي عليها، بينما حبرها ودمها يجفان على حبال غسيل النفط العربي، كما يجف ضرع أمٍّ مات ابنها.. فلسطين التي انصرف معظم العرب والمسلمين عن تحريرها من إسرائيل وذلك بسبب انهماكهم المحموم من أجل تحرير سورية من السوريين، وتحرير الجزائر من الجزائريين وتحرير لبنان من اللبنانيين ووو…
مع العجوز فلسطين غيّر معظم العرب والمسلمين مذهبهم من عاطفيين إلى براغماتيين، كانوا عاطفيين معها عندما كانت فتية تمنحهم سبباً كاملاً للغياب عن تأدية واجباتهم الوطنية، ثم عندما هرمت وصار جلدها يابسا وجدائلها مقصوصة، تعاملوا معها ببراغماتية العم سام، بحيث تبقى فلسطين حاضرة كحبر ضال على ورق من النخب الأول في مؤتمرات الجامعة العربية والمؤتمرات الإسلامية التي يقيمها أعضاء نادي ابن تيمية، حبر يسيل من أقلام مرصعة بالجواهر لتحتمل رهافة الأمراء والملوك الأميين وكبار المتقرشين من ملحك ودمك.
هناك حيث لا مكان أستطيع أن أسميه، حيث يعلو صوت الصراخ المندد والمستنكر على صوت الحفارات التي تقضم الأقصى رويداً رويداً، فما من حاجة للسرعة، وحيث الجرافات تنبش جثث البرتقال اليافاوي من جذوره، مستبدلة إياه ببرتقال جاء بالسفن ذاتها التي حملت الأسلحة والصهاينة عوضاً عن الاسمنت.
لا تحزني يا حبيبة، لمّا يزل صوتك يلهب أصحاب القلوب النقية، غسان كنفاني مازال معلم أدب المقاومة، ومحمد الدرة صار حقولاً فتية.. يحملون النار في جنبات قلوبهم سنابل مشتعلة، ولن تغادرينا يا فلسطين.. وقفت على نياط قلبي وصحت: فلسطين، فأجابني الصدى: سنرجع يوماً.