للقدمين ذاكرةٌ يانعةٌ بالخيبات
مرآة أولى:
أسلّمهما قيادي كلّ تعبٍ، أدعُ لهما حريّة التّشظي في مرايا المكان. الخراااااابُ على مدّ النّظر. يرفعُ بيرقَه على كامل شرفاتِ المرئيّ: لا أمام، لا خلف، لا تحت، لا فوق، إلّا رهن إشارته.. فأين المفرّ؟!.
لم تخزلاني يوماً، وهما تقودان خطاي إلى حيث الينابيع التي طرّزتْ برذاذِها شالَ حبي لهذا الوطن، ووشّحته بألوان قوس قزح الحياة. الينابيعُ المعرفيّةُ التي شكّلتْ ذائقتي الثقافيّة والجماليّة، وغذّتها بفاكهةِ الانتباه. أنا وأمثالي من قواضمِ الكتب. أقصدُ مرتادي المكتبة الوطنيّة صاحبةُ الفضل الأكبر في ترسيخ علاقتي بهذه المدينة المنتهكةِ العتيقة. ككائنٍ لا يطمئنّ بسهولةٍ إلى الأمكنة. أقصدُ عشّاق المعارضِ الثقافيّةِ، قبل أن يسرقها لصوصُ العماء الأصولي إلى عتمتهم، بتواطؤٍ مع الفاسدينْ المعنيين بتعميمِ ثقافة التّجهيل. أقصدُ محبّي المعهدَ الموسيقي والمسرحيّ ودار الأوبرا. أقصد زوّارَ المراكزَ الثقافية النّاشطة: الروسي، الفرنسي، الاسباني، العربي. أقصدُ كلّ شجرةٍ غفلَ عنها منشارُ حرّاس الإسمنتِ المسلّح، فأعطتْ ظلّها خلسةً بكاملِ الأمومة، لعابرٍ غريب. أقصدُ..آهٍ.. وآخٍ.. من قصدي.. كلّ شيء.
مرآة ثانية:
أتأمّلُ الوجوهَ الشّاحبةَ، الأجسادَ المعطوبةَ، الأرواحَ المنكسرةَ التّائهةَ في صحراء غيبٍ معجون بغيمِ الأمل والحَيرة. مطلقاً العنان لقدمي، تغزّان المسافة بإبر الرّيح، نحو المتحفِ الحربي ودمشق القديمة ومكتبااااتِ الأرصفة المزدهرة بالكثير، مما يُثلجُ القلبَ والعقلَ، ومما لا يتوفّر في المكتبات الأنيقة الملمّعة الزّجاج، الملغّمة بكلّ قنابل الفكرِ الاستنساخي. مكتبات تحتفظُ بشتى صبغيات وملوثات الفكر وبكلّ ما من شأنه غسل الأدمغة، ومنع بذور المعرفة الحقيقية من الإنتاش. مكتباتٌ تعيد طباعة تراث من خرّبوا تاريخكَ وحاضركَ، أملاً باستكمال فعلهم المشين بمستقبلك أيضاً. بكتبٍ عملاقةِ الشّكل مذهّبة الحواشي والخطوط لـ “علماء” لا أدري بأيّ علم تحصّنوا، أو بأيّ إنجازٍ علميٍّ تميّزوا؟! ما أرخصَ المصطلح..! “. نذروا أنفسهم لتلقينك ــ أنتَ السّوري الضّال ــ. شعوذات لا تمتّ للحضارة أو الحياة بأية صلةٍ. أساتذة في فنّ التّدريب على كيفيّة ولوج الحمّامات، أبالقدم اليمنى أو اليسرى..!. فاعلو خير يزوّدون أخلاقكَ النّاقصة بآداب وآليّات المجامعة، والاطمئنان على خصوبتكَ المبتورة، متأهّبين لرسمِ مسارِ المروَدِ في المكحلة!. وتحتَ ظلال أمّهات هذه الكتب الضّخمة الحجم، تغفو وليداتُها المشوّهة من كتيّبات الأبراج وشعوذات المنجّمين وقارئي حظوظ السّوري العاثر. السّوري السّائر بطواعيّة ملاك نحو استشهاده اليومي.
مرآة ثالثة:
في هذه المدينة المكلومة والتي لطالما تباهتْ بأنّها عاصمة الثّقافة والتّاريخ. تكثرُ الفراغاتُ الصّفراء. ثقوبٌ فاغرة الفم تلتهمُ خطاكَ وذاكرتكَ وتبعثرهما في شتّى الاتجاهات. أكشاكُ ومحلّاتٌ نمتْ بغزارة جشعٍ غريب، على غفلةٍ من رقابة بعضِ المؤسسات الرسميّة، وربّما، بتواطؤٍ معها!. لتحلّ محلَ المكتبات الثقافيّة متبرّعةً بتزويدكَ بوجبات عالية الوباء من الشيبس الوطني الفاخر، والأجنبي ذي الألوان والطّعوم المؤكسدة المختلفة. الاستهلاكُ التهمَ كلّ شيء. وحدها، صور الشّهداء المخضّبة بدمائهم وأحلامهم، تعرّشُ على شرفات الياسمين، تعبّد الطريق نحو صباحاتٍ قادمةٍ لأجيالٍ ذنبُها الوحيد أنّها ولدتْ وعاشتْ في جهنّم الحرب. محترقةً بويلاتها، حتّى كاد يترمّد فيها الأمل.
أدع لقدميّ المنهكتين حريّة انتقاء أقرب مقعدٍ من النّافورة، في حديقة الجاحظ. الرُّذاذُ المتطايرُ، ينعشُ القلبَ والنّظر، ويبعثُ في الحجر نفسه طاقة الحياة، لأوّل مرّة لا أرى تناقضاً بين الميتافيزيق والفيزيق في رمزيّة وغموضِ الماء العالي الوضوح. أقشّرُ فستقَ الأسطورة على مهلٍ، ملتهماً لبّ الفكرة بكاملِ اللذاذة، رامياً القشور في موقد التأمّلِ والدهشة. هاتفاً مع كلّ شعراء الوجود: “الماءُ أصلُ كلّ شيء” ذاك الرّحم البدئي الذي تشكّلتْ فيه بذور الحياة الأولى، وفاضتْ من رغوته ملامحُ الكائن البشري. أشردُ وأشردُ في تدفّقِ الماء واندفاعه إلى الأعلى، وسقوطه المرح من جديد بكاملِ الشّقاوة والطّفولة بين أحضانِ البحرة. يعيدُ إنتاج نفسه دون كللٍ. أعرف حينها سرّ صمودكَ أيّها السّوريُ الشّاهد/ الشّهيد، فأنت سليلُ هذه الحكمةِ الوجوديّة الثابتة الجذور، تحافظُ بكلّ جدارةٍ الحياة فيك على كيانك المنهوب أمامَ أعتى عواصفِ الاقتلاع، طيلة تاريخك وحاضركَ العنيفين، وأنت تسير على الأشواكِ والجمر لاجمَاً حصانَ الغيب بثقةِ شاعرٍ لم تكتملْ قصيدته بعد. بعيونك الدافئة القاسية، تقاوم مخرز صنّاع الظّلام. يتناهى إلى مسمعي، هسيسُ أغنية عتيق، تشابكَ ومضُها ورذاذ النّافورة. أغنيةٌ صدحتْ بها حنجرةُ الرّاحل “عصام الخطيب” ذات شبابٍ حارقٍ، تلخّص كثافةَ المشهد اليومي، والتّوق الدؤوب لاستمطارِ أملٍ لن يتأخر قدومه، مهما احلولكَ الظلام، وتقلّصتْ فسحة القلب: (مازلتُ أسافرُ يا وطني، بين زواياك المنسيّة، كي أسألَ عن أملي الضّائع زهراتُ البرد الشتويّة، كي أسألَ عن أملي الفتّان، كفتونِ زهورِ الحريّة).
أوس أحمد أسعد