التداعيات الاجتماعية والاقتصادية للسياسات النيوليبرالية في مصر
د- محمد أشرف بيومي
تسعى هذه الدراسة إلى رصد التداعيات المدمرة للنهج النيوليبرالي على المجتمع المصري جراء سياسة الانفتاح الاقتصادي وتوقيع معاهدة كامب ديفيد واللذين يعدان وجهين لعملة واحدة، كما تشكل الدراسة تحذيراً لكل الذين يراودهم تبني هذا النهج، بما يحمله من نتائج وخيمة اقتصادياً واجتماعياً، وتعد الحالة المصرية أنموذجاً عملياً يجب الاستفادة من دلالاته.
إن المعالجة الشاملة للموضوع تلزمنا تقصي سر الارتباط الوثيق بين سياسة الانفتاح ومسار “السلام” مع العدو الصهيوني، وما استتبع ذلك من وقوع في فلك التبعية للغرب، إضافة إلى توضيح حقيقة مفادها أنه على الرغم من أن هذا الانفتاح قد لعب دوراً أساسياً في الظواهر الاجتماعية الخطيرة التي نتجت عنه، إلا أنه تواجد عوامل أخرى تضافرت معه، لتنتج هذه الظواهر، ومن أهمها، الهجرة من الريف إلى أطراف المدن وانفجار العشوائيات، وهجرة العمالة المصرية إلى الدول الخليجية، وتراجع دوار الدولة في الاقتصاد، ودور السلطة السياسية المصرية في ضرب القوى التقدمية والوطنية وإطلاق العنان للإخوان المسلمين ومايسمى تيارات الإسلام السياسوي.
لقد أدى تراجع دور الدولة في مجال الخدمات الاجتماعية تحديداً، إلى محاولة التيارات الإسلاموية ملء الفراغ، من خلال تقديم بعض الخدمات، وتزامن انحسار دور الدولة مع تعاظم غزو المؤسسات الأجنبية بما فيها مؤسسة فورد “غير الحكومية” ولقد أوضح Delwin Roy مستشار المؤسسة في مصر أن هدفها هو إعادة بناء الاقتصاد السياسي المصري، وفتح الباب على مصراعيه بما يشبه غزواً ثقافياً عارماً لقوى الإسلام السياسوي من خلال السماح بشركات توظيف الأموال بشعاراتها الدينية الرنانة.
مقارنة بين ثلاث حقبات
لقد عاصرت في مصر ثلاثة حقبات مورست فيها نماذج اقتصادية وسياسية مختلفة، بل متناقضة في الأهداف والنتائج، وأدى تناقضها إلى تغيرات اجتماعية هائلة وسلوكيات وممارسات مختلفة.
الحقبة الأولى: عصر الملكية والاستعمار
في الحقبة الأولى، وقد عاصرت آخر سنواتها نهاية الحرب العالمية الثانية، وهي عصر الملكية والاستعمار البريطاني، حيث هيمن المستعمر على الاقتصاد وحدد توجهاته الاقتصادية بنهب الثروات والمحاصيل الزراعية، وعلى الرغم من الشكل الديمقراطي الذي ميز تلك الفترة، فإن حزب الأغلبية، وهو حزب الوفد، لم يحكم إلا فترات قصيرة، وكانت الغلبة لأحزاب الأقلية التي كانت موالية للقصر والمستعمر البريطاني، وكانت الأوضاع الاقتصادية متردية وشاع الفقر والجهل والمرض بين الشعب، وكان القصر وطبقة كبار الملاك يحكمون تحت رداء المستعمر، والديمقراطية الزائفة، ولذا من العبث التباكي على هذه الديمقراطية أو الحديث عن نعيم تلك الحقبة، الذي كان محصوراً بالأغنياء وبعض الأفراد في الشريحة الوسطى.
لم يكن غريباً آنذاك أن تتصاعد المظاهرات الشعبية والطلابية والإضرابات العمالية، ما أدي في النهاية إلى تحرك الجيش في تموز 1952 وإزاحة الملك فاروق والملكية والاستعمار نفسه؛ وسرعان ما تحول التحرك إلى ثورة اجتماعية لصالح غالبية الشعب.
تجربة طلعت حرب الخلاقة
وعلى الرغم من مساوئ فترة الملكية، فقد برز نموذج اقتصادي فريد أوائل القرن العشرين، ممثلاً بتجربة خلاقة قادها المبدع الوطني طلعت حرب، وأسوق هذه التجربة رداً على من يظن أن البدائل الاقتصادية منعدمة، وأنه لا مناص من اتباع نموذج الخضوع لآلية السوق، إذ تعد هذه التجربة مؤشراً على أن الإبداع المحلي قادر على تقديم تجارب ناجحة خارج إطار العولمة الرأسمالية.
لقد كان المناخ العام بداية القرن العشرين يميل إلى إلقاء اللوم على الإمبراطورية العثمانية في تخلف الشرق العربي، ويمكن تلخيص أفكار طلعت حرب التي نشرها في مؤلفاته بالمبادئ التالية، وهي: عداؤه لمقرضي الأموال من الأجانب والبنوك الأجنبية التي تسرق تعب الفلاحين، ودعوته إلى إنشاء بنك وطني مصري، كما تأثر طلعت حرب بثورة أحمد عرابي 1882 والرموز الوطنية المصرية مثل مصطفي كامل ومحمد فريد الذين نادوا بالاستقلال وإنهاء الاحتلال البريطاني ورفضوا تمديد امتياز قناة السويس، وبالمقابل كانت هناك بورجوازية مصرية تابعة للانجليز ممثلة بإسماعيل صدقي وأحمد عبود وحافظ عفيفي.
لقد اتسم فكر طلعت حرب بالذكاء والرؤى الواضحة بعيدة المدى والمرنة، ما مكنه من تأسيس علاقات متينة مع العائلات القوية، وكانت غالبية أسهم بنك مصر الذي أسسه عام 1920 مملوكة لكبار ملاك الأراضي، كما ساهمت الأنشطة الطلابية بتعظيم حجم رأس مال بنك مصر عن طريق بيع أسهم البنك، ومن خلال لجان مقاطعة البضائع الإنجليزية وتشجيع المنتجات المصرية وسحب ودائع المصريين من البنوك البريطانية وإيداعها في بنك مصر، وذلك في أعقاب ثورة 1919 التي قدم فيها الطلاب 313 من أرواحهم، وكان منهم عمي محمد عزت البيومي.
ثم توسعت مجموعة شركات بنك مصر، وشملت شركة مصر للغزل بالمحلة، وشركة صباغي البيضا قرب الإسكندرية، وستوديو مصر وشركة بيع المصنوعات المصرية وشركة مصر للملاحة البحرية وشركة مصر للطيران، ونشأ جراء ذلك حافز قوي لدي بعض أعضاء البرجوازية المصرية بتحويل استثماراتهم من الزراعة إلى الصناعة.
كما اهتم طلعت حرب بتوسيع نشاطه في البلاد العربية مما يعكس قناعته بضرورة الوحدة العربية وأهمية دور الاقتصاد في دعم الوحدة، وكانت دول فلسطين وسورية ولبنان محط اهتمام طلعت حرب، وحسب بعض من درس تلك الفكرة، ومنهم المؤلف دافيز فقد حقق بنك مصر سورية لبنان نجاحاً كبيراً.
ومع مرور الوقت، تربص أعداء طلعت حرب وعلى رأسهم أحمد عبود وحافظ عفيفي الذي وصفه دافيز بأنه “إنجليزي أكثر من الإنجليز أنفسهم” وقد أصبح لاحقاً رئيس الديوان الملكي للملك فاروق، وكان ورائهم الاستعمار البريطاني، وأصبحت مجموعة شركات بنك مصر، هدفاً للمؤامرات، وانتهى الصراع باستقالة طلعت حرب، وتولي أحمد عبود وهو إنجليزي الهوى أيضاً رئاسة بنك مصر، ولتتجه مصر نحو مزيد من الفقر والتراجع الاقتصادي، ولتنتهي هذه الحقبة بثورة تموز عام 1952.
الحقبة الثانية: المشروع الناصري والتخطيط الاقتصادي
يمكن تسمية الحقبة الثانية بحقبة المشروع الناصري ومحورية تخطيط الدولة للاقتصاد وقد استمرت طيلة حكم جمال عبد الناصر /1952-1970/ وإن أهم انجاز شهدته هذه الفترة هو إطلاق مشروع نهضوي أثبتت نتائجه فعاليته وانعكاساته الإيجابية على الملايين من الشعب المصري، إلى جانب ترسيخ قيم العمل والعدالة لعموم المصريين، والاعتماد على الذات، وترافق مع تغيير مجتمعي هائل وازدياد عدد أفراد الطبقة المتوسطة، وخروج الملايين من دائرة الفقر والمهانة والجهل.
لقد بدأ عبد الناصر بتطبيق مبدأ سيطرة الدولة على مصادر الإنتاج من خلال تأميم البنوك الخاصة والأجنبية والشركات والمصانع الكبرى، وكان بنك باركليز الإنجليزي يسيطر وحده على 56% من الودائع، كما كان بنك مصر خاضع لسيطرة رؤوس الأموال الإنجليزية والأمريكية، ومن بين 960 شخصاً يتولون الوظائف الأساسية في مجالس إدارات الشركات الصناعية كان بينهم 265 مصري فقط، الأمر الذي دفع الاقتصادي المصري الدكتور عبد الجليل العمري إلى وصف الاقتصاد المصري بالبقرة التي ترعى في أرض مصر، لكن ضروعها تحلب خارج مصر.
ويمكن إعطاء لمحات من انجازات عبد الناصر بالنقاط التالية: تحقيق الاستقلال الوطني بجلاء قوات الاستعمار البريطاني عن مصر في 19 تشرين أول 1954 وتأميم قناة السويس عام 1956 وجعلها مصدر كبير للدخل القومي وإنشاء السد العالي الذي جنب مصر من الفيضانات والجفاف وحول ري الأحواض الزراعية إلى ري دائم والذي أوجد بحيرة ناصر الغنية بالأسماك، وهي أكبر بحيرة صناعية في العالم، وقد مكن السد من استصلاح حوالي 2 مليون فدان ووفر طاقة كهربائية ضخمة حققت هدف كهربة الريف.
كما صدر قانون الإصلاح الزراعي بعد ثورة تموز مباشرة، وجرى توزيع أراضي كبار الملاك على الفلاحين، وتحسنت ظروف ملايين الفلاحين، وجرى إنشاء المدارس والوحدات التعليمية والجمعيات الزراعية في كل قرى مصر، وأدت سياساته إلى التوسع الهائل في التعليم في جميع مراحله، وإتاحة التعليم الجامعي لمئات الآلاف من الفقراء وبناء الآلاف من المساكن الشعبية.
كما بنى بناء قلعة صناعية شملت: مشروعات الصناعات الثقيلة كالحديد والصلب والألمونيوم، وشركة الأسمدة ومصانع إطارات السيارات ومصانع عربات السكك الحديدية ومصانع الكابلات الكهربائية وشركة النصر للسيارات، والبدء مع نهاية الستينيات تأسيس مشروع لتصنيع الطائرات والصواريخ والمحركات النفاثة والأسلحة بالتعاون مع يوغسلافيا والهند، وأصدر عبد الناصر قوانين جديدة للعمل، حددت ساعات العمل والحدّ الأدنى للرواتب. وعلى الصعيد الخارجي، آمن عبد الناصر بضرورة الوحدة العربية، وقد تحققت بجهوده الوحدة بين مصر وسورية، ونهضت القومية العربية بوجه الرجعية العميلة، ودعم عبد الناصر القضية الفلسطينية كقضية عربية محورية، وساهم بنصرة ثورة اليمن والجزائر وليبيا، وكانت مصر أحد الدول المؤسسة لحركة عدم الانحياز 1964 وساهمت بتأسيس منظمة الوحدة الإفريقية، وكانت صلابة عبد الناصر ضد العدوان الثلاثي عام 1956 عاملاً مهماً في صمود الشعب المصري بوجه العدوان.
وبالطبع، كانت هناك أخطاء في هذه الحقبة، وعلى رأسها انفصال سورية عن مصر وهزيمة 1967 وبقاء قيادات غير مسؤولة في قمة السلطة، مما كان لها آثار سلبية كبيرة وعلى رأسها، المشير عبد الحكيم عامر وأنور السادات، كما لم تكن هناك حرية كافية تسمح بالنقد والتحذير والمساءلة من المصائب وترافق الأمر مع اتساع البيروقراطية واتساع دور الضباط غير المؤهلين مهنياً في المؤسسات الاقتصادية على حساب القادة الاقتصاديين.
الحقبة الثالثة: عصر الانفتاح والسلام
بدأت هذه الحقبة بتولي الرئيس أنور السادات الحكم، ولعل أكثر وسيلة موضوعية لتقدير “إنجازاته” هي ما ذكره السادات نفسه بحماس كبير في خطابه أمام مجلس الشعب عام 1981 حين قال ما نصه وبالعامية المصرية: “سنة سبعين حراسات، واحد وسبعين مراكز القوى والدستور، اتنين وسبعين الخبراء السوفيت، تلاتة وسبعين معركة أكتوبر، أربعة وسبعين الانفتاح، خمسة وسبعين افتتاح قناة السويس، ستة وسبعين إلغاء المعاهدة السوفيتية المصرية، سبعة وسبعين المبادرة، تمانية وسبعين كامب دافيد، تسعة وسبعين المعاهدة و80% من سيناء وعودة الحياة الطبيعية، وأربعتاشر مايو تمانين إلغاء الأحكام العرفية” “تصفيق حاد”.
إضافة إلى أن السادات نال مع مناحيم بيغن جائزة نوبل للسلام 1978 تقديراً لبعض إنجازاته التي ذكرها.
لقد امتدت حقبة الانفتاح والسلام قرابة خمسة عقود، وأحسب أنها ستستمر، وتميزت بغياب أهداف واضحة ومدروسة من أجل التنمية الاقتصادية، وإذا تساءلنا ما هي الأهداف التي تجمع المصريين اليوم، عدا الانتصار في كرة القدم، تكون الإجابة على الغالب أهدافاً شخصية، محورها تحسين الأحوال المعيشية، ولقد انتشرت نكتة في بداية الانفتاح مؤداها أن مصري سؤُل يوم الحساب ما إذا كان يفضل الجنة أو النار، فقال: أروح للكويت” وإذا طرحنا السؤال نفسه في الحقبة الملكية، فسيكون الرد سريعاً، وهو الجلاء وتحرير مصر من الاستعمار البريطاني والقضاء على حكم الملك الفاسد والقضاء الفقر والجهل والمرض وتحرير فلسطين من العصابات الصهيونية، كما سيكون الجواب في الحقبة الناصرية هو بناء السد العالي والصرح الصناعي والوحدة العربية وتحدي الاستعمار وتحرير فلسطين ودعم إفريقيا، فيما سيكون في الحقبة الساداتية والمباركية هو تراجع الآمال المشتركة إلى أهداف شخصية بحتة وضيقة.
تداعيات الانفتاح والسلام
لقد كان سياسات الانفتاح والسلام توأمان، غير منفصلان، ويستحيل الفصل بينهما كما أن تداعياتهما متشابكة، وبالتالي ليس منطقياً أن نتوقع أن العدو الصهيوني سيوقع معاهدة مع مصر وسيسمح لها بمشروع نهضوي، بل على العكس، سيعمل على ربط اقتصاد مصر بالعولمة الليبرالية، وسيغرقها بالديون، وسيخلق طبقة اجتماعية من عملاء الشركات العملاقة العالمية، وسينشر النمط الاستهلاكي وهو ما حدث.
ما يعني أن الفصل بين ما هو اقتصادي وسياسي واجتماعي وسلوكي في هذه الحقبة هو فصل تعسفي، كما أن الجمع بينها من دون الاهتمام بنتائج تفاعلها يفقدنا الخواص والظواهر الناجمة عن هذا الترابط. وبالتالي، فإن ظاهرة صعود النيوليبرالية في المرحلة الحالية في كافة المجالات وخاصة الاقتصادية والسياسية هي ظاهرة متوقعة منطقياً، خاصة أن أفراد الليبرالية الجديدة هم دعاة قوى السوق، وأنصار تقليص دور الدولة في التخطيط وتوزيع الثروة، وهم أصحاب عدم اكتراث الدولة بمفهوم السيادة الوطنية، وإذا كان كذلك فلماذا الاندهاش من تبعات هذه السياسات التي تمثلت بمزيد من التبعية لقوى الهيمنة ومزيد من التراجع الوطني وشراهة استهلاك الطبقات القادرة واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتهديد السلم الاجتماعي.
إن غياب أهداف مشتركة يضعف الانتماء القومي ويفتت المجتمع ويضعفه خارجياً، وأن أي مجتمع يفقد ذاته بتخليه عن أهدافه القومية نحو أهداف شخصية، ولنا أن نلاحظ كيف يستيقظ المجتمع عندما يواجه أزمة كبيرة مثل زلزال مدمر أو عدوان خارجي، ولقد رأينا رد فعل الشعب المصري برفضه هزيمة 67 وخروج الملايين تهتف “حانحارب”. هذا يعني أن أهم نتائج حقبة الانفتاح والسلام كانت هو تراجع الحس الوطني وتراجع الاهتمام الشعبي بالقضايا الوطنية، وفقدان مصر الكثير من استقلالها وسيادتها على الرغم من غياب جنود الاستعمار المباشر من المدن والقرى المصرية، ما يدعوني للقول: إن الكولونيل البريطاني رحل، وأتى بدلاً منه الكولونيل ساندرز الرأسمالي الأمريكي صاحب مطاعم كنتاكي لقلي الفراخ، وأصبحت الوطنية وجهة نظر وأصبح التعليم والعناية الصحية والخدمات والإعلام والرياضة والوطن سلع للبيع.
التداعيات الاقتصادية والسياسية
لقد شهدت هذه الحقبة تداعيات اقتصادية وسياسية خطيرة، من بينها، تركيز الإنفاق على القطاعات غير الإنتاجية، واتساع الفجوة بين الفقراء والأغنياء وزيادة النمط الاستهلاكي واستيراد السلع غير الأساسية وانخفاض الادخار وزيادة البطالة وتراجع الخدمات العامة والصحية وخصخصة شركات القطاع العام وتشجيع الاستثمارات الأجنبية بطبيعتها الانتهازية وقدراتها في نهب الثروة، وعدم الاكتراث بالقضايا العامة والوطنية، وتبرير السلام مع إسرائيل، والارتماء بأحضان الغرب، وغض النظر عن الجشع والفساد.
كما تدهور التعليم في المدارس والجامعات، وتفاعلت التطلعات الاقتصادية التي غذاها الانفتاح مع الفوضى السياسية وعدم الاكتراث بالنتائج، وأطلقت الجامعات إعارات الأساتذة إلى جامعات دول الخليج فكان ذلك عاملاً أساسياً في تدهور مستوى الأساتذة وعدم قيام ببحوث علمية للمحافظة على مستواهم العلمي، كما عاد بعضهم من دول الخليج ليفتح مشروعاً اقتصادياً، فأصبح تاجراً يمتلك “بوتيك” لملابس نسائية، أو سوبر ماركت والأخطر أنه عاد محملاً بقناعات متفاوتة من الفكر الوهابي.
وبالتوازي، تراجعت قيمة التعليم والثقافة ودور ذلك في الترقية الاجتماعية، وأصبح الثراء هو القيمة السائدة بصرف النظر عن طرق الثراء، وأصبح الالتزام بالأخلاق والصدق والأمانة قيم خشبية، حلت محلها قيم الحداقة والفهلوة والنصب كقيم ترمز للشطارة.
مأساة البحث العلمي
انطلقت الدعوات لنقل التكنولوجيا، والمفارقة أن نقل التكنولوجيا كان عبارة عن استيراد واستهلاك سلع تكنولوجية حديثة مثل التليفون المتنقل والمحمول والأيباد واتضح أن شعار “العلم والإيمان” الذي جرى رفعه كان شعاراً زائفاً وارتبط بشعارات دينية واهية كشفت التدهور الأخلاقي والفساد.
ومع انعقاد المؤتمرات التي ترفع شعارات علمية وازدياد حملة شهادات الدكتوراه، إلا أن الواقع يؤكد أنها حركة من دون تقدم، وقد نشر الدكتور أنطوان زحلان مقالاً مستفيضاً يكشف تراجع التعليم في مصر ونشرته صحيفة “الأهرام الاقتصادي” في 15 تشرين الثاني 1982 تحت عنوان “قضية البحوث العلمية المشتركة والمنهج العلمي في المعالجة”.
التداعيات الاجتماعية
إن التداعيات الاجتماعية لسياسة “الانفتاح” كثيرة وخطيرة، ومن بينها: انتشار الفساد وصعود القيم المادية وتراجع قيمة الثقافة والمعرفة، مقابل قيم الفهلوة والكسب السريع الغير ملتزم بقواعد أخلاقية، وعدم إتقان العمل وتفكك الأسرة وسيادة الفردية والأنانية والذاتية. وقد أدت هجرة العمال المصريين بأعداد كبيرة في السبعينات إلى آثار عميقة على الأسرة المصرية، ونتيجة غياب الرجل عن بيته وعائلته، كما أصبح النموذج الغربي والأجنبي في السلوك والجمال هو السائد وصرنا نلاحظ الشعر الأحمر والأصفر والملابس الغريبة وانتشار الباروكة إضافة إلى انتشار الحجاب وتغطية وجه المرأة بالكامل، ثم بدأ خليط من النهجين يتحايل ويلبي ولع التقليد بالغرب مع الحفاظ على المظهر الوهابي للدين، فترى فتيات يلبسن البلوجينز الممزق وتحته بنطلون ويقوم الشباب بتسريحات شعر أمريكية، وترافق ذلك مع العنوسة وارتفاع سن الزواج بسبب الضغوط الاقتصادية ومع تقدم سن الزواج زادت مشاهد الانحلال وزواج فتيات شابات لرجال أكبر بكثير منهم، ومشاكل لا حصر لها.
كما تابعنا البذخ في حفلات أعياد الميلاد عن الأثرياء، وازداد النمط الاستهلاكي، وابتكر أفراد الطبقة الغنية مناسبات هادفة لمزيد من الاستهلاك، وانتشرت الخرافة وجرى اختزال الدين في طقوس وشعارات والعلاج بالقرآن واكتشافات علمية وهمية تزعم علاج فيروس الإيدز والعجز الجنسي والسرطان وغيرها.
ومن الملاحظ أن آثار الانفتاح في المجال الاجتماعي كانت متناقضة، وبدا أن المجتمع فقد عقله، ففي المرحلة الأولى من الانفتاح وجدنا الانكباب الشديد وغير المعهود على تقليد اللباس الغربي من فساتين قصيرة وبلو جينزات وباروكة الرأس، خصوصاً الصفراء والحمراء المستوردة وغيرها من الكماليات، كما انتشرت موجة عبارات انفتاحية تستخدم في غير موضعها مثل “جزاك الله خيراً” و”قدر الله وما شاء فعل” و”ما يهمكش الشكر لله مش مشكلة” و”نو بروبلم” وتنطق “no broblem” إضافة إلى الأدعية والآذان كرسائل تليفونية وفي المصاعد وعند إقلاع الطائرات، وعبر ميكرفونات عالية، وجرى استبدال ألقاب “سيد وسيدة أو أستاذ وأستاذة” بألقاب مثل باشمهندس وحاج وباشا وغيرها.
وانعكست ثقافة “الانفتاح” على الخطاب السياسي والديني والثقافي والفني مثل السينما والغناء والكتب المعروضة في الشوارع، وجاءت هذه التداعيات على النقيض من حقبة البناء والتمسك بالسيادة الوطنية.
واتصفت الأفلام والأغاني السائدة زمن “الانفتاح” بالسطحية والابتذال والرسائل السلبية وقيم الأنانية وعدم الاكتراث والعنف، وانتشرت الإعلانات الضخمة والكثيرة لمنتجات غربية مثل “كنتاكي، ماكدونالد، شويبس” ورافقها إعلانات دعائية تمجد “السلام” وتبشر المصريين بسنوات الرخاء المنتظرة، كانت لغة الإعلانات هي اللغة الانجليزية، كما تغيرت أسماء المحلات من العربية إلى الإنجليزية وجرى كتابة الأسماء العربية باللغة الانجليزية، وانتشرت الأعلام الأمريكية والبريطانية ودول حلف الناتو على السيارات، وكنزات مكتوب عليها عبارات سخيفة أو أسماء مدن أوروبية أو أسماء نوادي رياضية أجنبية، ووصل ابتذال الإعلانات وتضاعف حجمها وعددها إلى حد أنها باتت تلوث الشوارع المصرية وترافقت مع إعلانات عن علاج أمراض العجز الجنسي والشرج والبواسير، والمؤلم أن العديد من الإعلانات استخدم كلمات وشعارات دينية مثل “الله أكبر” و”الحمد لله”.
كما استغلت شركات توظيف الأموال الشعارات الدينية في إعلاناتها، ومنها إعلان ضخم لشركة بدر لتوظيف الأموال على أعلى البنايات في كورنيش الإسكندرية، وقد تضمن آية قرآنية متعلقة بغزوة بدر.
مقاومة سياسات الانفتاح
لقد مثلت المعونات والديون الأجنبية أداة فعالة للهيمنة على البلاد المستهدفة واحتواء التقدم الاجتماعي بها بما يخدم أولويات القوى المهيمنة، وهذا ما أثبتته دراسات متعددة تناولت دور المساعدات المالية الأمريكية لمصر والتي صاحبت توقيع اتفاقية “السلام.
وبعيداً عن الادعاء السخيف بما يسمي بنظرية المؤامرة، فإن التخطيط والممارسة والنتائج يستحيل إنكارها كأهداف واضحة في أسلوب المعونة الأمريكية لمصر، وهو ما أفرز شريحة من المستفيدين من برامجها بحيث يصبح هؤلاء وكلاء لشركات أمريكية ودولية وترتبط مصالحهم بالمصالح الأمريكية ويتبنون أولوياتها.
ولقد كتب الصحفي الأمريكي جاك أندرسون عدة مقالات في صحيفة “واشنطن بوست عام 1981 حول المستفيدين الأساسيين من المساعدات الأمريكية لمصر ووصفهم بأنهم “القطط السمان” ومن الواضح أن هدف المساعدات قد تحقق بدرجة كبيرة وأصبح هؤلاء أهم مراكز القوى المهمة في مصر الآن.
كما كتب أندرسون أنه بعكس التوجهات الأمريكية التي تقول: إن الفقراء لهم الأولوية العليا في المساعدات، تقول وكالة التنمية الدولية الأمريكية “USAID”: “لم يكن هدف مشروعات التسليف أن تلبي احتياجات المنشآت التجارية الصغيرة” ولقد رافق نشاط الوكالة حملة مكثفة وواسعة منذ منتصف السبعينات لدراسة ومسح الأوضاع الاقتصادية والسياسية والديموغرافية والإدارية في مصر بواسطة المعاهد ومراكز البحوث والجامعات الأمريكية، وبتمويل من الوكالة نفسها، واتضح أن هدف المساعدات هو تمرير التطبيع مع العدو الصهيوني.
وكتب أيضاً، لقد اتضح أن اتفاق فصل القوات في سيناء الذي تبع حرب تشرين أول 1973 كان حافزاً لتدفق المعونات الاقتصادية للشرق الأوسط بهدف مساندة السلام، كما كانت المساعدات المالية لمصر وسيلة لتنشيط التجارة الأمريكية، وكان برنامج استيراد السلع من الطرق الأساسية للتجارة الأمريكية الواردة إلى السوق المصرية.
وبالتالي، فإن برنامج المساعدات المالية الأمريكية لمصر قد تم تصميمه وفق مفاهيم حكومية أمريكية محددة للسلام والاستقرار، والتي تعني التطبيع مع العدو الصهيوني وتعني العلاقة الخاصة مع الصديق الأمريكي وتعني دمج مصر في الفلك السياسي الأمريكي والسوق العالمي الذي تهيمن الولايات المتحدة عليه، وأن قياس تحقيق المساعدات المالية الأمريكية لأهدافها وفق هذه المفاهيم، يمكن ملاحظته في سلوك وثراء مؤيدي المساعدات قبل غيرهم.
وبالفعل، فقد كانت المساعدات الأمريكية والتحولات المرتبطة بها عقبة بطريق التنمية الوطنية والقومية المستقلةـ وأداة لتحييد مصر وحجبها عن دورها القيادي في حركة التحرر العربي، وعن التنمية المستقلة.
وإذا تابعنا، فقد رافق الانفتاح ظاهرة خطيرة “Dumping” هي اعتبار مصر وغيرها مكباً لإلقاء بضائع فاسدة وضارة بالصحة وبالتالي غير مقبولة لدى الدول الصناعية وممنوع تداولها، وهنا سأسوق بعض الأمثلة، وعلى رأسها مبيد “جالكرون” Galecron المسبب للسرطان الذي تنتجه شركة سيبا جايجي السويسرية للأدوية والتي اعترفت بآثاره السيئة على أطفال مصريين نتيجة رش المبيد عليهم.
كما كتب توماس لبمان Thomas Lippman بصحيفة واشنطن بوست عام 1976 حول مبيد اللبتوفوس Leptophos الذي تسبب بوفيات بمصر، وهذا يقود إلى قضية مهمة، وهي تواطؤ مصريين مع الشركات الأجنبية في هذه الجرائم من أجل الكسب المادي على حساب أرواح مواطنيهم. وبالمقابل، هناك مصريون تصدوا لهذا الموضوع، ويمكن متابعة تفاصيله في كتاباتي وكتابات سهير مرسي وآخرين.
وفي عصر الانفتاح جرى استخدام المصريين كفئران تجارب حيث قامت شركة نامرو Naval Medical Research Unit-3 m “NAMRU-3” بتجريب مادة مسببة للسرطان على مئات مزارعي الأرز في محافظتي الفيوم والبحيرة لاختبار كفاءتها في قتل قواقع تعيش فيها البلهارسيا.
كما كانت هناك محاولات لدفن نفايات كيميائية سامة ودفن مواد مشعة خطيرة داخل مصر، وتعرضت نساء مصريات في الثمانينات إلى تجريب مانع للحمل اسمه نوربلانت Norplant له تأثيرات صحية واجتماعية سلبية، وتم في ظل ضعف أجهزة الرقابة الحكومية استيراد مواد غذائية ملوثة إشعاعياً بعد حادثة تشيرنوبيل.
تداعيات الاعتماد على آلية السوق
لا تقتصر مساوئ تبني سياسة قوى السوق على بلادنا، بل إن آثارها السلبية واضحة في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها والتي تشهد معارضة لهذا المنهج الاستغلالي، وهنا من المفيد عرض موجز لهذه التداعيات.
ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية، وفي ظل سياسات فرانكلن روزفيلت وتصاعد الإنتاج الصناعي والإعمار ودور الحكومة الفيدرالية القوي، فقد حقق أمريكا نمواً اقتصادياً كبيراً، ولدرجة أن “الحلم الأمريكي” امتد إلى قطاعات واسعة من المجتمع الأمريكي مع ملاحظة هامة أن أحوال المواطنين السود ظلت مزرية.
وفي عهد جونسون ومشروعه “المجتمع الكبير” الذي تمحور حول “حرب الفقر” كان تدخل الحكومة بالنشاط الاقتصادي كبيراً، وكان المشروع بمثابة حرب على “السوق الحرة”، وقد تحققت إيجابيات كثيرة في عهد جونسون بالنسبة للداخل الأمريكي، ومن بينها إقرار قانون الحقوق المدنية Civil Rights Act وقانون الفرص الاقتصادية Economic Opportunity وقانون التأمين الاجتماعي Social Security وقانون التعليم الابتدائي والثانوي Elementary and Secondary Education والقوانين الصحية Medicare and Medicaid و قانون حق التصويت، وإجراءات تحسين صحة الفقراء والتدريب المهني على الوظائف وقوانين الأمان في المواصلات والعمل والمنتجات، ويعزو الكثيرون هذه التطورات إلى المفكر والاقتصادي جالبريث John Kenneth Galbraith
وبالمقابل، فقد تفاقمت الحروب في عهد، ومنها عدوان 1967 على فلسطين ومصر وسورية، والحرب في فيتنام ولاوس وكمبوديا، كما ازداد معدل التضخم الذي صاحب الحروب وانسحبت أمريكا من اتفاقيات بريتون وودز Bretton Woods وتخلت عن غطاء الذهب للدولار، وارتفاع أسعار النفط أربعة أضعاف بسبب حرب تشرين أول 1973 ما فاقم الأوضاع الاقتصادية في أمريكا وبعض الدول الأوروبية.
ثم أتى رونالد ريغان واتبع نظرية التقاطر theory down-trickle والاعتماد على حرية السوق وآلياته دون قيود وكانت أهم إجراءاته، هي تخفيض الضرائب عام 1981 وصاحب ذلك التحرر من قوانين الرقابة مما أدى إلى ارتفاع معدل النمو، واعتبر ريجان أن الحكومة هي المشكلة، وعمل على تقليص دورها وتخلى عن أهداف الاستثمار في البحث العلمي والتنمية والحفاظ على قوة عاملة متعلمة بدرجة عالية وبنية تحتية متميزة.
إن تقصي هذه الحقائق يكشف أن تجربة الحزب الجمهوري الأمريكي في إدارة الاقتصاد لمدة ثلاثين عاماً أدت إلى تركيز الثروة بيد الأغنياء وتراجع أحوال الغالبية العظمي من الأمريكيين واتساع الفجوة بين شريحة الأغنياء وما يسمي بالواحد في المائة وبين عموم الشعب.
وعلى العكس من ذلك، تشير تجارب التاريخ إلى أن زيادة الضرائب على الأغنياء أدت إلى نمو طبقة وسطى قوية وأن الفترة ما بين حكم روزفيلت وريغان تميزت بأقل تفاوت اقتصادي.
وهنا تجدر الإشارة إلى ما ذكره الدكتور جودة عبد الخالق في محاضرة له عام 2017 تحت عنوان “المن والسلوى أم سقط المتاع” وميَّز فيها بين معدل النمو ونمط النمو مما يشير إلى مقاييس اقتصادية مخادعة، كما يحضرني في هذا المقام برنامج تلفزيوني أمريكي يعرض الأوضاع الاقتصادية داخل كوبا ويؤكد على ارتفاع الصحة العامة والعلاقات بين البيض من أصول أسبانية والسود من أصول أفريقية وعدالة توزيع الثروة، لكن البرنامج ينتهي باستنتاج مدهش وكاذب وهو أن الاقتصاد الكوبي بحالة مزرية.
كما يحضرني قول ساخر للاقتصادي جوزيف ستجليتز Stiglitz الحائز على جائزة نوبل عام 2001 في برنامج تليفزيوني هو “الديمقراطية الآن” “Democracy Now “ وجرى عرضه في تشرين الثاني الماضي، وهو: إن خطة ترامب الضريبية ستغدق البلايين للأغنياء عن طريق تخفيض الضرائب بما فيهم عائلة ترامب نفسه، والمفارقة أن هذه الخطة ستلغي جزئياً برنامج أوباما الصحي للفقراء، ولقد وافق مجلس الشيوخ الأمريكي على مشروع ترامب، وبذلك ستتحول الأولوية من محاربة الفقر في الستينات إلى محاربة الفقراء الآن، إضافة إلى أنه سيتسبب بزيادة قدها تريليون دولار في العجز التجاري.
وهناك الاقتصادي بول كروجمان Krugman الحائز على جائزة نوبل عام 2008 والذي يقول في مقال له تحت عنوان “أكبر عملية احتيال ضريبي في التاريخ” /The Biggest scam in history/: إن مشروع قانون ترامب لم يناقش ولم يخضع لتحليل تداعياته الاقتصادية المعتادة، وإن المستفيد الكبير والوحيد منه هم الأغنياء الذين يجنون دخلهم من الأصول التي يمتلكونها وليس من خلال العمل، كما أن القانون يعيد توزيع الثروة ولكن عبر نقلها من من أصحاب الدخول الدنيا والمتوسطة إلى الشركات الكبرى ورجال الأعمال”. كما يقول مثقفون يمينيون أمثال وليام بكلي /W.Buckley/: إن عدالة التوزيع يصاحبها تزايد التوقعات والمطالب من المجتمع، ما يؤدي إلى عدم الاستقرار وهذا ما يكرهه المحافظون، وهذا ما حدث في الستينات والسبعينات عندما كانت الضرائب على الأغنياء في حدها الأقصى، ما أدى إلى نشوء حركة الحقوق المدنية والحركة المناهضة للحرب وحركة حماية البيئة.
ومن المظاهر الفجة، بل اللامعقولة، فضيحة بيرني مادوف Bernie Madoff الكبرى الذي نصب على كبار القوم في أمريكا بمبالغ فاقت 65 بليون دولار عن طريق ما سمي بمخطط بونزي Ponzi Scheme وقد حكم على مادوف في 2009 بالسجن 150 عاماً، ووالمثير أن ما فعله مادوف يشبه ما فعلته شركات توظيف الأموال المصرية مثل شركات بدر والريان وغيرها، ومع فارق استخدام الدين في النصب والاحتيال والفساد، ذلك أن قوائم كشوفات الرشوة التي أطلق عليها كشوف البركة، وصدَّق البعض أن بركة الله، هي التي وراء جمع ثروات طائلة من غير دون وجود عمل أو إنتاج، وأن الأرباح التي كانت تعطيها للمودعين كانت من أموال من مودعين آخرين.
كما أشير إلى قول للاقتصادي جوزيف ستيجليتز في كتابه “ثمن عدم المساواة..كيف يهدد المجتمع المنقسم اليوم مستقبلنا” وهو: فشل الحكومات حول العالم في التعامل مع المشاكل الاقتصادية بما في ذلك البطالة والشعور بغياب العدل لمصلحة القلة الجشعة بما يغذي شعوراً بالخيانة، وقد لفت ستيجليتز إلى ظهور حركة “الغاضبون” /Los Indignados/ بسبب ارتفاع معدل البطالة إلى 40% في إسبانيا وظهور حركة /Occupy Wall Street/ التي رفعت شعار 99% من أجل 1% و1% من أجل 99% وذلك في تهكم على مقولة لينكولن الشهيرة “حكومة الشعب وبالشعب وللشعب” ورفعت هذه الشعارات نفس الشكاوى.
وبالعودة إلى ستيجليتز، فقد أشار في كتابه إلى عدم المساواة المتزايدة في أمريكا وبعض البلدان المتقدمة، وشرح، كيف أن عدم المساواة وفشل النظام السياسي وعدم استقرار النظام الاقتصادي مرتبطة ببعضها بشكل كبير، وساهمت بتفاقم عدم المساواة في حلقة متدهورة.
ويشير ستيجليتز إلى فشل البنوك نتيجة إلى مغامرات غير مسؤولة وأنه لولا مساعدة الحكومة لكانت انهارت وانهار معها الاقتصاد كله، كما أثبت نظام “السوق الحرة” عدم كفاءته وفشل بتوفير الوظائف، ومن الواضح أن النظام الاقتصادي في أمريكا يخدم من هم القمة فقط.
وقد ترافق هذا التراجع مع ازدياد العنف والفساد، وقد لفت الكاتب روجر كوهن Roger Cohen في مقال بعنوان “عام 2017 الممزق” “Fractured 2017” إلى ذلك بالقول: الآن هو المحطة الأخيرة للرجل الأبيض، فقد انتهت المركزية الأوربية، وشرعت إدارة ترامب بهجوم عام على الفقراء الذين يستفيدون من الشبكة الاجتماعية، كما تداخلت مفاهيم الحقيقة مع الباطل، وازداد صعود الغباء والابتذال، وتحولت الفردية إلى النرجسية.
وفي استطلاع حديث عن ميول شباب العصر، أشار 44% منهم أنهم يفضلون الحياة في بلد اشتراكي، بالمقارنة مع 42% يريدون العيش في ظل اقتصاد السوق.
والمفارقة أن الجشع أصبح القوة الدافعة بحجة أن الأغنياء مفيدون أكثر من الفقراء غير المسؤولين والذين لا يريدون مساعدة أنفسهم، ويقول أحد أعضاء مجلس الشيوخ عنهم “هؤلاء لا يرفعون إصبع لمساعدة أنفسهم، ولعله يقصد بذلك تسعة ملايين طفل مع ذويهم كان يغطيهم برنامج التأمين الصحي، ما يدفع إلى القول بان: الممارسة الفجة للسلطة في اقتصاد السوق في أمريكا هو من قبل أقلية صغيرة غير خاضعة للمساءلة وتصدق أنها متفوقة على الآخرين، وليس من قبل الخيال أن أمريكا على مشارف اضطرابات يؤججها الظلم الاقتصادي الاجتماعي الواقع على الملايين.
ونختم بأنه من الجلي أن سياسات “الانفتاح” و”السلام” لم تؤدِ، لا إلى الرخاء، ولا السلام، وأن ضحايا الظلم والفساد يزيد بكثير عن ضحايا المقاومة.
كاتب وباحث مصري
أستاذ الكيمياء الفيزيائية بجامعة الإسكندرية وجامعة ولاية ميتشغان سابقاً