ثقافة

كلمة في التراث العربي

د. علي دياب
يُعرف التراث بأنه من الفعل وَرِثَ يَرِثُ إرثاً، ووراثة وإراثة فهو وارث جمعه ورثة وورّاث، والمال: موروث، ويقال: ورث المجد والعلم ونحوهما. وورّث في ماله: أدخل فيه من ليس من أهل الوراثة، وفي لسان العرب لابن منظور: الوارث: صفة من صفات الله عزّ وجلّ “والله يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين”. ومنه: الوِرْث والوَرْث والإرْثَ والإراث والتراث واحد والتراث أصل التاء فيه واو، وراث أبدلت تاءً، والشيء نفسه في اللغات الأجنبية، ففي الفرنسية:Tradition تستعمل كثيراً بمعنى التراث فالأصل اللاتيني: Traditio يعني النقل والتوصيل، وكذلك كلمة Heritage تعني ميراث أو تراث. فالتراث في لغتنا يعني الشيء الموروث أو ما ينقله الخلف عن السلف من مال ونحوه، وقد اكتسب اللفظ بعد ذلك معناه الاصطلاحي على الاستعارة والتشبيه لوراثة المال حتى أصبح يطلق في الغالب الأعم على عناصر الثقافة المتوارثة. فعلى الرغم من وضوح معنى التراث لغة واصطلاحاً، فالباحث لا يكاد يجد تعريفاً واحداً للتراث، فاختلف أهل العلم في تعريفه وتناولوه وفق علومهم ومناهجهم، فيقال: التراث الثقافي والتراث المعماري والتراث الشعبي والتراث العربي والتراث الانكليزي والتراث الغجري وهكذا. فتعريف التراث يقتضي بالضرورة أن يشتمل على ذكر دلالة النقل والاستمرار، ومفهومه لا يكتمل إلا بمفهوم الحفاظ والإحياء. وباختصار يمكننا القول: إنّ التراث هو قول وعمل وسلوك إنساني، وهو شكل ثقافي متميز يعكس الخصائص البشرية عميقة الجذور لهذه الأمة أو تلك ويتناقل من جيل إلى آخر، وبمعنى آخر إنّه كل ما كان في الماضي وبقي حيّاً في الحاضر، أي ما قد ثبتت صحته وجرّبه الناس في موطنهم، وهذا ما يعبّر عنه بالحكمة الكامنة في وعي الأمة أو في الشخصية القومية.
أهمية التراث: إن تراث أي أمة لا يتكون من تراكم خبراتها وتجاربها فقط، وإنّما يمثل خلاصة شخصية الأمة في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، فالشخصية القومية الحضارية لا تولد في الحاضر، وإنّما هي وليدة إرث أجيال متعاقبة عبر التاريخ ومن خلال تجارب وخبرات وأفكار تلك الأجيال. فالتراث يمثل دعامة أساسية من دعامات الهوية الوطنية حيث تتجلّى المقومات الأساسية للهوية في الموروث عن الأسلاف، وتعدّ هذه المقومات من الخصوصيات التي تميز الشعوب بعضها عن بعض، وتحدد الانتماء، وفي حال فقدانها، يصبح الشعب مستلباً ومغترباً تجاه نفسه وتجاه غيره ودون هوية. إنّ وعينا بأهمية التراث لا يكون إلا بدخولنا العصر والمشاركة في مسيرته، والأصالة لا تتحقق فعلاً إلا من خلال الحداثة والمعاصرة.
أنواع التراث: يمكننا من منظور ثقافي تقسيم التراث إلى ثلاثة أقسام: تراث مادي: ويشمل الأبنية الأثرية وموجودات المتاحف بالإضافة إلى نتائج التنقيب عن الآثار. تراث فكري: وهو ما قدمه العلماء والكتاب والمفكرون من إنتاج يكتسب صفة الاستمرارية. تراث اجتماعي: يضم كلّ ما يتعلق بالعادات والسلوك والتقاليد ومنظومة القيم الاجتماعية عامة. وتجدر الإشارة إلى أنّ هناك علاقة بين هذه الأقسام، فعلى سبيل المثال: أصبحت الآثار موضوعاً لعلم هام هو علم الآثار، فهو يرفد علوم الإنسان الأخرى وخاصة علم التاريخ، إذ كثيراً ما يدل هذا الاكتشاف لهذه القطعة أو تلك على فترة زمنية محددة. كثيراً ما يتهم العرب في أنّهم مغالون في نظرتهم إلى التراث وتقديسه! إذ كان علينا أن نكون موضوعيين في موقفنا من التراث، لا نقف موقف المستقبل المستسلم، ولا موقف الرافض! فلدينا ما يفسح في المجال لأن يوجه إلينا مثل هذا الاتهام، فالسلفيون على سبيل المثال يرون أنّ التراث مقدّس بكامله، اللاهوتي منه والبشري، وأمام الفقر الثقافي والجهل وهيمنة الفقهاء العالم منهم وغير العالم، اتسعت مادة التراث حتى شملت كل ما هو قديم، ووضعت جميعها تحت خيمة المقدَّس وبالتالي أصبح التراث عقبة أمام التطور أو التحديث أو حتى التمدن. فعلينا أن نتناول هذا الإرث التاريخي تناولاً موضوعياً، وضمن عملية إبداع إنساني متجددة، ندخل فيها العصر، ونشارك في تطوره، مدركين أنّ الانفتاح على الثقافات الأخرى ضروري، فالعلم مشاع، والمعرفة بمعناها العام تشكل القاسم المشترك بين أبناء المجتمع البشري، كما واجه تراثنا العربي عدداً من المفكرين والمنظرين المنبهرين في الغرب وما يصدّره إلينا من تراثه الثر! فهم يمثلون الانقياد الأعمى للغرب، وفاتهم أن أجدادهم العرب لم يكونوا متقوقعين على أنفسهم بل كانوا منفتحين على الغرب وغيره، أخذوا وأعطوا، فكما تأثَّروا بمن سبقهم، عادوا ليؤثِّروا بمن لحقهم، وهؤلاء أي المنبهرون بالغرب ينكرون على تراثهم ما اعترف به الغربيون أنفسهم، فعلى سبيل المثال تأثر دانتي في رواية الجحيم برسالة الغفران لأبي العلاء المعري، و تأثر رواية روبنسن كروز في حي بن يقظان لابن طفيل، إذن علينا أن نتناول هذا الإرث التاريخي تناولاً موضوعياً وعلمياً وننفي عنه صفة القداسة، وضمن عملية إبداع إنساني متجددة، ندخل فيها العصر، ونشارك في تطوره، مدركين أن الأصالة لا تتحقق إلا بالحداثة، وأنّ الانفتاح على الثقافات الأخرى أمر ضروري.
ونلاحظ أنّ بعض الغربيين يهتمون بتراثنا أكثر منا، فهذا صحيح لأنه يتعلق بمدى وعينا لأهمية التراث ووعي الآخر، وبحكم المعطى التاريخي والاستعماري، استطاع الغرب أن يحتفظ بأشياء كثيرة من مخطوطات وكتب سواء في أثناء احتلاله لبلداننا، وأخذه لهذه النفائس إلى مكتباته الوطنية، أو ما احتفظ به أيام الحضارة العربية في الأندلس، أو ما أنتجه أبناء العروبة في بلدان الغرب، فالغرب يسعى دائماً للإضافة إلى رصيده التراثي ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ويُتَّهم بعضهم بمحاولة سرقة هذا التراث، لأنّه ذو قيمة كبيرة سواء أكان قطعاً أثرية أو نتاجاً فكرياً لمرحلة ما، والسرقة إما أن تكون فردية بهدف بيع هذه القطع وتحقيق الربح المادي، أو أن تكون بهدف سرقة هذا النتاج وضمه إلى تراث البعثة المنقّبة والدولة التي جاءت منها، وليس للدولة التي وجد فيها، وهذا يعود إلى الدولة المعنية بالحفاظ على تراثها وعدم تركه مهملاً ومعرّضاً للسرقة والعبث به، فهناك مثل عامي يقول: “المال السائب أو الداشر علّم الناس السرقة”، وهنا يطرح سؤال مهم؟ كيف علينا أن نحمي تراثنا من العبث به و نهبه أو سرقته و تلفه؟ أرى أنّه لابدّ من تحديد الذي ينبغي أن نحميه ونحافظ عليه، فليس كل إرثنا التاريخي يجب المحافظة عليه، ففيه الصالح والطالح، وعلينا أن نحدد هذا الموروث الثقافي الذي تكمن فيه قوة نستطيع أن نبعث فيها الحياة والحركة بالتجديد والتطوير. بهذا الصدد أذكر آية قرآنية كريمة أعتقد أنّها في سورة الرعد، وهي: «فأمّا الزّبد فيذهب جُفاءً وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، كذلك يضرب الله الأمثال». فماء السيل نفسه قد يغور في أعماق الأرض قبل أن يستفاد منه في ري الحقول، وينتفع به الناس. إذن شرط الفائدة في التراث ضروري، وكذلك إحياؤه بالكشف عنه وصونه بأسلوب علمي إذ إنّ أي تراث ثقافي ليس أكثر من قوة كامنة نستطيع أن نبعث فيها الحياة والحركة بالتجديد والتطوير، بوصفه يشكل خلفية لتكويننا الحضاري، ولابدّ من حمايته والمحافظة على الآثار والمعالم التاريخية والحؤول دون نهبها أو تلفها، ولا نعني هنا بالحفاظ على التراث وضعه في صندوق وتحنيطه لمجرد رغبة رومانتيكية تذكي فينا الحنين إلى الماضي، وإنّما نحافظ عليه بقصد الحفاظ على ذاتنا، لأنّ حياتنا ليست سوى تطور منطقي للماضي. وعلينا أيضاً أن نحسن توظيف التراث وأن نجمع بينه وبين المعاصرة ولاسيما أنّنا في منتصف العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، وهذا يرتب علينا أن ننفي عنه صفة القداسة كما ذكرنا، وأن لا نتعامل معه كماضٍ مفصول عن الحاضر، لأنّه المخزون الذي يشكّل البدايات الأولى للنهايات التي وصلنا إليها، وبالتالي نكون قد حصّنا تراثنا وامتلكنا القدرة على مواجهة الغزو الثقافي المتوحش للعولمة بمفهومه الإمبريالي الصهيوني، الذي يستهدفنا بقصد إلغائنا والقضاء على مقومات شخصيتنا الوطنية والقومية. وهنا نجد أنّه لزام على الدولة ومؤسساتها كافة أن تولي جلّ اهتمامها بالتراث، كل مؤسسة أو وزارة في مجال اختصاصها، ودور وزارة الثقافة ومديرياتها في حماية المواقع الأثرية بالإضافة إلى القيام بأنشطة وبرامج ثقافية تعرّف بالمآثر والمعالم التاريخية، والثروات الأثرية والشيء نفسه بالنسبة إلى وزارة التعليم العالي والجامعات ووزارة التربية، وتعريف الأجيال الاهتمام بالتراث لأنّه حاجة اجتماعية من حاجات الإنسان، وليس لأنّه موضة عابرة وقادمة من الغرب، ولا ننسى أيضاً دور وسائل الإعلام في لحظ كلّ ما يتعلق بالتراث في نشاطاتها وتغطية نشاطات بقية المؤسسات التي تعنى بالتراث. إنّ الحفاظ على التراث أصبحت تحكمه مواثيق واتفاقيات عالمية، وساد مفهوم ملكية التراث الثقافي للبشرية كافة،ٍ وأنّه ليس حكراً على الأمة التي تملكه، وظهر هنا تدخل مؤسسات عالمية مثل: منظمة اليونسكو، بالإضافة إلى منظمات محلية في كلّ قطر. وفي النهاية نستطيع القول إنّ الراعي الحقيقي لعملية الحفاظ على التراث وحمايته هو المجتمع الذي يملك هذا التراث، إن كان أفراداً أم جماعات أم مؤسسات. وبالتالي فلابدّ أن نجسّد التعبير القوي لمعنى الوطن والمكان الذي نحيا فيه، وللذاكرة الجمعية للأمة من خلال شواهد الماضي التي تعكس حواراً حيّاً بين إبداع الحاضر وما يزخر به ماضي أمتنا العربية، وهذا ما يذكرني بقول الشاعر العربي:
وطني لو شغلت بالخلد عنه    نازعتني إليه في الخلد نفسي