خلو رجل!؟
د. نهلة عيسى
أنا غريبة, نعم غريبة, وغربتي لم تعد عارضة, فعمرها قد تجاوز السبع سنوات, أي أنها تعي, وتمشي, وتحكي, وتكتب, وتقرأ, وتغضب, وتأكل وتشرب من عمري, وجسدي, وأحلامي, وأيامي, وتستوطن عقلي وقلبي ولساني, بوضع يد, وما أدراكم ما وضع اليد في بلادي, حيث كل القوانين تشرعنه, منذ صدور قانون الإصلاح الزراعي, وحتى صدور قانون التنظيم البلدي, وعلى المتضرر اللجوء إلى القضاء ليتقاسم مع الغربة ما احتلته الغربة, أي ليدفع لها “خلو رجل” عما كان عندما احتلته جميلاً, بهياً, وسترده عندما ترده, سقيماً, كئيباً!.
غريبة أنا، وغربتي باتت غضباً يحفزني على الاستمرار في البحث عن الوطن الذي كان يشبهني، طفلاً شقياً عنيداً، بارعاً بصنع أعظم وأجمل الأشياء, كبراعته بارتكاب الهفوات، لكنك لا تملك إلا أن تعشقه, وتذوب شوقاً إليه، لأنه وحده يقينك، ووحده هويتك, وبطاقة تعريفك, وبطانية دفئك, ومهد أولى خطواتك, وكلماتك الواثقة أنها مُنتظرة: ماما, بابا, ليتحولا من ناديت غيمة تمطر حباً لمجرد أنك فقط قد نطقت, على سذاجة ما نطقت!.
أنا غريبة, والثلج يغطي القلب, أتلمس مثل ضريرة وجه الوطن، وأنا أعبر كل يوم عشرات الحواجز، يكشف فيها الستر عن بطاقتي الشخصية, وشجرتي العائلية, ومن أين أنا, وأين ولدت، إضافة لأسراري الصغيرة في حقيبة سيارتي: زجاجة عطري، حذاء المشي، أغاني المفضلة، أوراقي وكتبي, وبضعة أشياء أخرى تعري عيوبي وهواجسي التي أخفيها بصمتٍ يخجل من الاعتراف بالضعف, كما يخجل صوتي من القول آه في وجه الوطن!.
أنا غريبة, ليس ادعاءً ولا حباً بالغربة، ولا رغبة مازوشية مني في معاقرتها وتعاطيها، بل لأنني حقاً, وأظنكم مثلي, أعيش كالمحتضرة تتوالى أمام عيني الحقائق الجلفة لأيامنا المسمومة, ولأنني أيضاً في أحيان كثيرة بت عاجزة عن تلمس الملامح شبه المنسية لوطنٍ، كانت السماء، والنجوم، والرياح، الجبال, الخلجان، الرمال، الطيور، الورود, تنطق لغته، وتعكس سماته، وتزهو أنها تحمل جيناته، وبصماته الوراثية.
وهي لغة، يبدو أننا وحدنا (السوريون)، الذين لا نتقنها, ولانجيد فك حروفها ورموزها، وإلا لما كنا سمحنا لقلة صغيرة منا, أضاعت بوصلتها، وضميرها، وصوابها، وأخذت بتضييع الوطن, وبقيادتنا إلى هستيريا غير مسبوقة تاريخياً، حيث الإرهابي فيها هو القانون، وهو القوة، وهو الحق, حتى لو كان في رقبته دماء مئات الضحايا والقتلى، وحيث المثقف فيها هو البائع، والمروج، والمنظّر لتقسيم الوطن، تحت مسمى الحق بالخصوصيات الدينية، والاجتماعية، والثقافية للطوائف, وبعد سبع سنين قتل وهجر ملايين الملايين من كل الطوائف, ولم تبق لهم لا حرمة, ولا خصوصية, ولا ذكر, سوى كونهم سلعة تباع على ألسنة الإرهابيين والمثقفين!.
أنا غريبة, وعقلي سبورة ممحية, لأن الرعاع اغتالوا ذاكرتي, وأقلامي, وألبوم صوري, ودفاتر أطفالنا، ورسومهم، وضحكاتهم, وألعابهم, وسرقوا تاريخنا, وآثارنا, وكل ما كان يوماً مصدراً لفخرنا, وداسوا خبزنا, وبقايا أعمارنا, وبيوتنا, ووسائدنا, وثياب حدادنا، بحيث تحول الوطن إلى ماركة مسجلة للموت العبثي الأحمق, ومسرحاً لكل مرضى الزهو المسلح، والخطف المسلح، والسطو المسلح، باسم الوطن, والحرية, والديمقراطية, وصحيح الدين!؟.
أنا غريبة, أتحدث عن الوطن, فأبكي, أشعل سيجارة, فتشتعل الحرائق في قلبي, أحلف بالله, فأتذكر أكاذيب زمننا البريئة, أتناول طعامي, فيمتلئ حلقي بالدم والذكريات والعلقم, أحاول النوم, فتداهمني الكوابيس, وأرى جثتي معلقة بخيط في رقبة الوطن, أصحو مرتجفة.. فأسارع لمحو جلدي عن جلدي!.
أنا غريبة, وأخشى أن الغربة باتت رفيقة درب وعمر, طازجة وحارة كدمعة, وعازلة للحلم, وحاجبة للضوء, ذاك الذي يتغزل به الشعراء بأنه نهاية كل عتمة, فماذا أفعل والعتمة أصبحت خياراً, وبديلاً بائساً عن معرفة موجعة, وسيقان فرار من الزمن المشؤوم إلى النسيان, أو إلى وهم ما, أو ربما صدق عابر, يتوجني يوماً ما, ملكة للفرح الذي لم يأت بعد!؟.