جمل لحنية مختلفة قائمة على مقامات متنوعة لرائعة ” الآهات ” “آه يللي أضحكت وأبكيت/آه من رضاك وصدودك”
أغنية الآهات لأم كلثوم التي عُدت من أجمل روائعها والتي برع الموسيقي زكريا أحمد بتحليل مواضع الآه وترجمة معانيها ضمن حكاية حبّ جارف،تنتهي بألم وحسرة تتسرب إلى الذات لتشبعها بأنين الحنين ووجع الفراق وألم الانكسار،بجمل لحنية مختلفة قائمة على مقامات متعددة منسجمة مع غنائية شعرية صاغها الشاعر بيرم التونسي بتناغم مع رومانسية أسبغها من إشراك الطبيعة باشتياق العاشقة وآهات حزنها لنأي الحبيب وصدوده.
رائعة الآهات كانت محور المحاضرة التي ألقاها الباحث الموسيقي وضاح رجب باشا ضمن سلسلة موسيقا الزمن الجميل في المركز الثقافي العربي في (أبو رمانة). وتأتي روعتها -كما ذكر الباحث- من اجتماع عباقرة الزمن الجميل الثلاثة، فتكاملت الكلمة المعبّرة مع النغم الأصيل والصوت القوي، حيث تنتمي هذه الأغنية إلى فنّ المنولوج،وقد غنتها أم كلثوم عام 1943 وهي في قمة عطائها وقدرتها على استخدام مساحات صوتها كاملة،ومما زاد من جماليتها إحساسها بالكلمة النبيلة والتعبير الغنائي عنها بإحساس دافئ ويكمن سرّ هذه الأغنية بمعنى الآه في خمسة مواضع بين التأمل والسؤال والفرح والألم وانتهاء بالقفلة بالحسرة الموجعة ضمن حكاية المنولوج التي تبدأ بمقدمة ثم تتصاعد الأحداث وصولاً إلى العقدة ومن ثم القفلة،وتكررت الآه عشرين مرة غنتها أم كلثوم بجمل موسيقية مختلفة متنقلة بين المقامات الموسيقية فكان هذا المنولوج شاهداً على الزمن الجميل. وتعني الآه في اللغة العربية التوجع والحزن والشكوى من جدول الزمن المنساب برتابة مثل مياه الجدول الرقراقة،وهذا ما جسدته رائعة الآهات.
بعيدة عن النشاز
وقبل البدء بتحليل المنولوج من قبل الباحث وضاح باشا تحدث عن سمات أولئك العباقرة فبيرم التونسي شاعر مصري ذو أصول تونسية يعدّ من أشهر شعراء العامية ارتبط بحكايات الناس وهمومهم ولُقب بشاعر الشعب وله اثنا عشر مجلداً،قال عنه حافظ إبراهيم:”أخاف على الشعر العربي من زجل بيرم التونسي لأن فيه موسيقا شعرية ووزناً لكنه ليس بالفصحى”،أما زكريا أحمد فانطلق من عالم الغناء الديني وحضور الندوات الثقافية إلى عالم الطرب اشتهر بتدوين مذكراته حتى اليوم الأخير من حياته،برع بإدخال تعديلات على الجمل اللحنية للدور والطقطوقة،له أكثر من 1070 لحناً مابين أغنيات وأفلام ومسرحيات التقى مع سيد درويش وتابع مسيرته الموسيقية،وقدم أجمل الألحان لأم كلثوم،وتابع الباحث حديثه عن خاصية صوت أم كلثوم الذي يمتاز بمساحة أوكتافين وقدرتها الجسدية التي تؤهلها للغناء مدة أربع ساعات متواصلة،وبناء على التجارب الإلكترونية بلغت نسبة النشاز بصوتها واحد على الألف ويبلغ تمييز الأذن واحد على تسعة فقط مما يؤكد عدم وجود نشاز بصوتها وهذا من النوادر.
بداية الحكاية مع الهزام
بدأت الآهات بمقام الهزام وهو مقام شرقي طربي يستند إلى مقام الحجاز درجة النوا ويرسو على درجة السيكا وقد اشتعلت جذوة الغرام من النظرة الأولى ..ومن هنا بدأت الحكاية الغنائية
آه من لقاك أول يوم/ونظرتك لي بعينيك/خاصم عيوني في ليلتها النوم/وبت أسأل روحي عليك.
ثم تتصاعد الأحداث لتأتي الآه متقطعة ومتسائلة بحيرة عن موقف الحبيب و-كما تابع الباحث – عمدت إلى لهجة السؤال في المقطع التالي
وقول لقلبي يا قلبي/حبّه يعادل حبي/ويقول لي قلبي آه/
فتغنيها بمقام البيات الذي يستخدم لترجمة معاني الحزن.
وفي الموضع الثالث للآه نصغي إلى تحوّل واضح إذ بدت تخاطب العقل إزاء إحساسها بهذا العشق الجارف بمقام التكريز على درجة الرست ثم العودة إلى البيات
وارجع واسأل قلبي/هو الزمان حيروق لي/ويقول عقلي آه
الرقص على السازكا
ثم تصل الآه إلى أوج تصاعدها بتحولها إلى جمل لحنية تدل على الفرح لتكتمل الصورة بأبهى درجاتها باستخدامه مقام السازكا،وهو مزيج بين الرست والنهوند ثم التنقل إلى السوزنا
آه من حلاوتها/آه من قساوتها/وتتضح الجمل الموسيقية بإيقاع راقص متسارع/
بات السرور كله/بيني وبينك منقسم/
الطير يغني لي والموج يقول آه آه آه
وبعد الفرح يتغير الحال وينأى الحبيب دون سبب ويهجر محبوبته التي تغرق في توسلاتها ورجائها فيستخدم زكريا أحمد مقام نهاوند العجم الذي يوحي بالحزن والانكسار الداخلي،ومن ثم ينتقل إلى تفريعات الرصد فيمزج بين الرصد والنهاوند كما في
اصبر وأتظاهر بالفرح والبهجة/والصبر في الظاهر والسرّ في المهجة/آه آه آه آه
والمفاجأة تأتي بعودته إلى مقام السوزك وهو مقام هادئ
والزهر كان أنت/والابتسام كان أنت
لتأتي النهاية المؤلمة ببعد الحبيب وصدوده عنها وتركها تعيش ألم الفراق فيلجأ الملحن إلى مقام المستعار تمهيداً للعودة إلى مقام النهاوند… لينتهي المنولوج بالقفلة بالحسرة والألم والتوجع
آه يللي أضحكت وأبكيت/
آه من رضاك وصدودك آه
بين حنايا المنولوج يشعر المتلقي باختلاف الجمل اللحنية وتصاعد وهبوط الصوت وخفوته،لكنه بالتأكيد لايعرف هذه التفاصيل الصغيرة التي بنى عليها زكريا أحمد ألحانه،والتأمل بتنقلات اللحن يجعلنا نعيش دهشة حقيقية.هكذا كان انطباع الحاضرين في هذه الندوة التي اتخذت سمة الإصغاء والتحليل.
ملده شويكاني