أردوغان.. الثعلب عندما يؤمن جانبه!
ترجمة وإعداد: علاء العطار
لا مراء في أن أطماع أردوغان ظهرت منذ بدء مسيرته السياسية، ولم يتوان بإزالة العقبات واحدة تلو أخرى منذ أن بدأ يصعد سلم السلطة، حتى أن انشقاقه عن حزبه الأم ” الخلاص الوطني” كان لأطماع سلطوية، فبعد تأسيس حزب العدالة والتنمية، استطاع وحزبه الفوز بأغلبية ساحقة في البرلمان التركي عام 2002، وكون الدستور التركي كان يُبقي الأصوليين الإسلاميين بعيداً عن المناصب العليا، التف الصاعد الجديد للسلطة على الدستور، وقام بتغيير القانون الناظم لذلك، ما سمح له بالوصول إلى منصب رئيس الوزراء في السنة التالية للانتخابات البرلمانية 2003.
ومنذ أن انقض أردوغان على أول منصب له كرئيس للوزراء، عمد إلى تغيير الدستور التركي تدريجياً ليحظى بدور سياسي أكبر بشكل يتلاءم مع طموحاته، ففي عام 2010 فاز حزبه باستفتاء على تعديلات دستورية تُقلّص النفوذ السياسي الذي كان يحظى به الجيش والقضاء التركيان، وركز في تلك الفترة على التخلص من أعدائه، وعلى بث الرعب في قلوب الإعلاميين الأتراك، وعينه على منصب الرئاسة.
لكن عام 2014– تاريخ وصول أردوغان إلى الرئاسة- شكّل نقطة تحول كبيرة في السلطة داخل الحكومة التركية حين سحب مزيداً من الصلاحيات التشريعية والتنفيذية ليكون الديكتاتور المتحكم في صناعة القرار، وهذا الأمر الذي لم تتقبله المعارضة، وانقلبت عليه عام 2016 لإعادة البلاد إلى سكّتها العلمانية، لكن ضعف المعارضة وعدم التنسيق الجيد داخل المؤسسة العسكرية أفشل محاولة الانقلاب التي اقتنصها أردوغان، وسحق معارضيه وأعداءه على طريقة أجداده العثمانيين أحفاد السلاجقة، فاعتقل المئات من ضباط الجيش، وقاد حملة تطهير واسعة ضد خصومه السياسيين، اعتقل خلالها ما يزيد عن 60 ألفاً، وتمت إقالة أكثر من 160 ألفاً من عملهم في مؤسسات الدولة، كما تم إغلاق 176 وسيلة إعلامية مستقلة، وفرضت حالة الطوارئ التي تم تمديدها 7 مرات، وأصبحت تركيا أكبر سجن للصحافيين والإعلاميين، وكان محصلة كل ذلك تحول تركيا من بلد ديمقراطي إلى دكتاتورية يتربع على عرشها ثعلب ماكر يقود قطيعاً لم يتبق فيه سوى “الخرفان” المطيعة، وقد وصفته صحيفة “الغارديان” بأنه “دكتاتور.. يسعى إلى السيطرة الكاملة”.
وكخطوة جديدة تضع مسماراً آخر في نعش الديمقراطية، دعا أردوغان في 18 نيسان من العام الجاري إلى انتخابات رئاسية مبكرة بتاريخ 14 حزيران القادم، بعد اجتماع مع زعيم حزب الحركة القومية دولت باهجه لي، في مناورة خبيثة قام بها للالتفاف على المخاطر التي بدأت تضعضع دعائم مشروعه، وبذلك يكون قد أخذ المعارضين المشتتين على حين غرة، واستبق التأثيرات السلبية للوضع الاقتصادي الآخذ بالتراجع.
حتى الاستفتاء على التعديلات الدستورية الذي جرى عام 2017، وصوت عليه 51.3% بنعم، كان مؤشراً على تراجع شعبية أردوغان وحزبه اللذين لم يفوزا إلا بشق الأنفس، ليحصلا على مجموعة من التعديلات الدستورية التي ستحول نظام الحكم في تركيا من نظام برلماني إلى نظام رئاسي تنفيذي يزيد من صلاحيات أردوغان.. عملياً، أمسى نظام الحكم التركي رئاسياً تنفيذياً منذ وصول أردوغان إلى سدة الرئاسة عام 2014، لكن هذا التحول لن يسري مفعوله إلا بعد الانتخابات الرئاسية التي كان مزمعاً عقدها في تشرين الثاني 2019، وعليه دعا أردوغان لانتخابات مبكرة لتثبيت تلك التعديلات بما تؤهله للتحكم بكل مفاصل القرارات السيادية في البلاد.
لم تأتِ دعوة أردوغان وباهجه لي إلى تقديم الانتخابات كمفاجأة غير متوقعة، فلهفة الأول لتقلّد الصلاحيات الجديدة لم تكن خافية على أحد، كما أن للتدهور الاقتصادي دوراً لا يمكن إغفاله، وربما كان ذلك أكثر ما دفع أردوغان إلى تقديم تاريخ الانتخابات، فاحتمالات فوزه فيها تتضاءل في حالة تراجع الوضع الاقتصادي بشكل أكبر، وهذا ما جاء في بيان صادر عن وكالة “ستاندرد آند بورز” العالمية للتصنيفات الإنمائية: “هناك خطر حدوث هبوط حاد في الاقتصاد التركي المعتمد على الديون”، كما حذر صندوق النقد الدولي من أن “السياسة المالية التركية تبدو فضفاضة للغاية، وتحظى بمصداقية منخفضة”، علاوة على أن قيمة الليرة التركية انحدرت أمام الدولار إلى مستويات قياسية متدنية منذ بداية العام الحالي، والتضخم آخذ بالارتفاع في ظل عجز متزايد في الحساب الجاري، وتبعاً للخبير الاستراتيجي تيموثي آش “إذا ما استمرت الليرة في الغرق، فإن الرسالة التي يتم توجيهها للناخبين ستكون أن أردوغان فقد السيطرة على الجبهة الاقتصادية”.
يسعى أردوغان إلى استباق الآثار العكسية التي تلوح في الأفق بعد تدخله العسكري في سورية الذي أضاف شرخاً جديداً إلى الوضع الاقتصادي المتردي نتيجة استنزاف الأموال في عمل عسكري غير محسوب، إضافة إلى أن هذه الانتخابات المبكرة باغتت المعارضة ولم تمنحها سوى أسابيع قليلة لاختيار مرشّحيها، وتحديد استراتيجياتها والتخطيط لحملاتها الانتخابية، وتساءل الباحث السياسي التركي إسلام أوزكان: “هل ستتمكن هذه الأحزاب من تجهيز أنفسها وهي التي ليست لديها سلطات ولا قدرة مالية بعكس حزب العدالة والتنمية؟”، في حين يرى مرشّح حزب الشعوب الديمقراطي التركي، صلاح الدين ديميرطاش “أن إجراء انتخابات نزيهة في ظل وجود حالة طوارئ في البلاد أمر مستحيل”، وأضاف: “ستواجه أحزاب المعارضة عقبات كبرى خلال حملاتها الانتخابية، فالتجمعات محظورة، والحديث ممنوع، وانتقاد الحكومة محظور”.
السلطات الجديدة وحظوظ المعارضة
مع صدور نتائج الانتخابات المبكرة التي يبدو أنها محسومة لصالح حزب العدالة والتنمية، سيتم إلغاء مجلس الوزراء “منصب رئيس الوزراء”، وسيتولى الرئيس مهام وصلاحيات السلطة التنفيذية بما يتناسب مع الدستور، وتقليص سلطة البرلمان، وستصبح الانتخابات الرئاسية تعقد كل خمس سنوات، وسيحظى الرئيس المنتخب بسلطات عديدة، منها إصدار المراسيم، وإعداد الميزانية، وحل البرلمان، وتعيين نواب الرئيس، وتسمية الوزراء، وكبار المسؤولين، والقضاة، والقدرة على إعلان حالة الطوارئ التي تمنحه صلاحيات بتقييد الحقوق والحريات الأساسية، والأهم في كل ذلك ستتيح هذه التعديلات الدستورية لأردوغان الترشّح لولايتين رئاسيتين أخريين، مدة كل منهما 5 سنوات.
والسؤال هو: أين المعارضة من كل هذا؟ ليس أمراً مستحيلاً أن يفوز أحد المعارضين، بالرغم من أن جميع العوامل تصب في صالح أردوغان، وفي هذا الصدد يقول زيا ميرال، وهو باحث وكاتب بريطاني تركي متخصص بالسياسة التركية: “إن التطورات غير المسبوقة التي حدثت في معسكر المعارضة عملت بمثابة تذكير مهم أن بوسع أحزاب المعارضة فعل الكثير لتغيير اتجاهات السياسة في هذه الانتخابات التاريخية”، ونتيجة تصويت عام 2017 على التعديلات الدستورية تبين تزايد شعبية الأحزاب المعارضة بشكل ملحوظ، وهو ما أعطاها جرعة أمل كبيرة في الانتخابات المقبلة.
وعندما لجأ حزب العدالة والتنمية، وحزب الحركة القومية إلى إجراء تغييرات في النظام الانتخابي تتضمن السماح بتحالفات انتخابية، كانا يسعيان لرفع حظوظهما، لكن المعارضة استخدمت هذه الاستراتيجية ضدهما، وتحالفت قواها بشكل غير متوقع، ووافقت على دعم أي مرشّح يعارض أردوغان، ما قد يحبط خطة “تحالف الشعب”، وهو التحالف الذي ضم حزبي العدالة والتنمية، والحركة القومية.
لكن المعارضة لم تتفق على ترشيح الرئيس السابق عبد الله غول، لذا سيكون لكل حزب مرشّحه الخاص، فقد رشّح حزب الخير ميرال أكشينار التي تشكّل تحدياً جدياً أمام أردوغان، حسب محللين، وهي أحد مؤسسي حزب العدالة والتنمية، لكنها غادرته بعد أن أدركت أنه لا يختلف عن حزب الرفاه الإسلامي، وأصبحت تلقب فيما بعد بـ “المرأة الحديدية”، وقد تعمل أكشينار على اجتذاب ما أمكن من أصوات حزب الشعب الجمهوري والقوميين والمسلمين الساخطين لتشكّل عقبة خطيرة أمام أردوغان.
ورشّح حزب الشعب الجمهوري الذي يعد حزب المعارضة الرئيسي، محرم انجيه، وهو أحد أشرس نواب الحزب وأقواهم داخل البرلمان، ويُعتبر أبرز منافس لأردوغان، واختار حزب الشعوب الديمقراطي زعيمه السابق المسجون، صلاح الدين ديميرطاش، وهو أحد أشهر الساسة الأتراك الذي سجن بتهمة الارتباط بحزب العمال الكردستاني، ولكن لم يصدر بحقه حكم إلى الآن، لذا حقّ له الترشّح للانتخابات، وستكون لأصوات الناخبين الأكراد أهمية حاسمة في زيادة حظوظ ديميرطاش أمام أردوغان، ورشّح حزب السعادة، بعد أن رفض دعوات حزب العدالة والتنمية، للانضمام إلى “تحالف الشعب”، تيميل كرم الله أوغلو، وهو زعيم تتزايد شعبيته بسبب خطابه المؤيد للديمقراطية.
وبوجود هذه الأسماء المشهورة والمؤثرة، قد تتمكن أحزاب المعارضة من منع أردوغان من تجاوز حاجز 50%، لكن حالة الطوارئ المفروضة، والقوانين الانتخابية الجديدة المثيرة للجدل، وسيطرة حزب العدالة والتنمية على وسائل الإعلام ستشكّل تحدياً كبيراً أمام المعارضة، وسط مخاوف من حدوث تلاعب وتزوير في الانتخابات.
ولابد من الإشارة ختاماً إلى أنه منذ بدء مسيرة أردوغان السياسية في حزب الخلاص الوطني بزعامة نجم الدين أربكان، مروراً بحزب الرفاه الإسلامي الذي رشّحه محافظاً لاسطنبول عام 1994، إلى أن اعتقل وأودع السجن في عام 1998 لمواقفه المتطرفة، وضع نصب عينيه هدفاً بأن يعيد “أمجاد” الامبراطورية العثمانية، فأدرك منذ خروجه من السجن عام 1999 أنه ليصل إلى مبتغاه عليه أن يخفي أصوليته وتشدده إلى حين، فانشق وعبد الله غول عن حزب الفضيلة، وأسسا حزب العدالة والتنمية الذي اتكأ عليه أردوغان لبلوغ ما وصل إليه حالياً.
ومع تحويله البلاد إلى معتقل كبير للحريات والديمقراطية، شعر الشعب التركي بحجم خداع رئيسهم، وبدأت تتكشف ألاعيبه شيئاً فشيئاً، مؤثرة بذلك على شعبيته وصورته التي عمل دائباً على ترصيعها بصفات نبيلة مزيفة لتخفي وراءها حقيقته البشعة، وبغض النظر عمن سيفوز، ستتولّد بعد هذه الانتخابات حقبة جديدة ستشوبها بعض الفوضى السياسية والاقتصادية، لكنها ستكون كافية لتستغلها المعارضة في إعادة تنظيم صفوفها وتوحيدها، وبالتالي ستتكون في الداخل التركي معارضة قوية بما يكفي لخوض غمار الانتخابات التالية بكل ثقة.