الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

محطات في سِفر القائد المؤسس

 

د. صابر فلحوط

تأتي ذكرى رحيل القائد المؤسس حافظ الأسد، هذه الأيام، لتفتح تاريخاً مترعاً بالأحداث الجسام التي يجتازها الوطن الذي بنى، والأمة التي آمن بها، والحزب الذي رسّخ جذوره أعمق في تربة الوجدان الجمعي للجماهير، والجيش الذي كان جيشه حتى تكاد لا تعرف أيهما في ميدان النار، وأيهما في معمعان السياسة، وصنع القرار..

وخلال خمسة عقود من شبابه وكهولته، تميّز في شدة الريادة طالباً وشاباً، وضابطاً، ومفكراً سياسياً، وجامع شمل لحزب عروبي عقائدي، تحدى المؤامرات والمثبطات، وصمد جباراً في عيون العواصف والمرجفات، حتى أرسى قواعد وطن، ودولة لها من المهابة والمنعة التي نعيش في نعمياتها من النصر المؤزر في أعظم حرب كونية لا مثل لها في تاريخ البشرية جمعاء.

وقد كان القائد الخالد مبدعاً في قراءة التاريخ غابره، وحاضره، وعبقرياً في استطلاع مستقبله.. فقد أدرك بعمق أن أم القضايا العربية هي فلسطين التي لا يسبقها هم، ولا يشبه نكبتها ألم، الأمر الذي يحتّم حشد الطاقات وتعضيد التحالفات من أجلها، ومن هذا المنطلق كان موقفه السياسي المسؤول من الحرب العراقية الظالمة على الشقيقة إيران، وتفرده في التوجه بين جميع القادة في الدار العربية، وها نحن اليوم نحصد ثمار هذا الموقف حلفاً مقاوماً، وسنداً داعماً تمثّل بمحور يرهب العدو الصهيوني والإرهاب التكفيري الوهابي وداعميه من دعاة الوقيعة والشر والعدوان في أوساط الرجعية العربية والامبريالية الأمريكية الأوروبية.

ويوم ابتلي الوطن بنكسة حزيران 1967، بعيد أحداث دامية في الوطن عموماً ممثلة بالانفصال الأسود 1961، وداخل “البيت البعثي” بخاصة في 23 شباط 1966، انبرى القائد الراحل من قلب المأساة ليصنع من الألم العظيم الإنجازات العظيمة..

– تجديد ثورة آذار ومنطلقاتها العقائدية

– إلغاء كلمة انقلاب عسكري وسواه من القاموس العربي السوري.

– إعداد الجيش العقائدي ليبدع أشرف نصر في حرب تشرين التحريرية أنبل أيام العروبة في القرن العشرين.

– إعادة القطر إلى حاضنته العروبية وإنجاز اتحاد الجمهوريات العربية التي كانت انتصارات تشرين تحت رايته القومية الوحدوية.

– التصحيح المجيد الذي تحقق فيه من الاستقرار الذي لم تشهده سورية العربية منذ العصر الأموي حتى عصر الأسد.

وهنا ونحن في ظلال الذكرى الساطعة لرحيل القائد المؤسس ، أسمح لنفسي أن أشير إلى بعض الأحداث التي مكنني القدر أن أكون شاهداً قريباً عليها:

في أول زيارة لوزير خارجية أمريكا هنري كيسنجر بعيد حرب تشرين، قدّم كيسنجر للقائد الخالد هدية من الرئيس نكسون، وكانت علبة فيها بعض الحصيات من صخور القمر، قال القائد الراحل: شكراً لهذه الهدية التي تحمل الكثير من الرسائل والرمزية، لكن أتمنى أن يعلم السيد الرئيس والشعب الأمريكي أن ذرة واحدة من صخور الجولان والقدس تساوي الشمس والقمر معاً في نظر الشعب العربي السوري..

ويوم تمنى كيسنجر على القائد المؤسس أن يوقف حرب الجولان وجبل الشيخ التي استمرت على الجبهة السورية بعد توقف النار على الجبهة المصرية، ولو لساعات خلال زيارته دمشق، قال القائد: إن قرار الحرب اتخذه الشعب العربي السوري، وتستحيل إمكانية استفتاء الشعب على قرار إيقاف الحرب خلال الزيارة !!. أما جواب القائد المؤسس حول ملاحظة كيسنجر (إن متاعب سورية تنتهي عندما تتخلص من الفلسطينيين الإرهابيين)، فكان: إذا كنتم تعتبرون من يناضل لتحرير وطنه إرهابياً، فإننا نعد كل فلسطيني يناضل لتحرير فلسطين من بحرها إلى نهرها،  وتحقيق العودة إلى دياره التي ما يزال يحمل مفاتيحها منذ النكبة الأولى 1948، طليعة نضالية نحن منها، وهي منا حتى التحرير والعودة.

أما توجيهات القائد لوفدنا إلى أكبر مؤتمر دولي للسلام العادل والشامل في مدريد 1991، والذي جاء بعد تحرير الكويت من الاحتلال العراقي، فقد جاءت ترجمتها  على النحو التالي: سأل الوسيط – الروسي الأمريكي – الوفد الإسرائيلي عن المفهوم الإسرائيلي للسلام الذي يعقد المؤتمر تحت شعاره، فقال رئيس الوفد: إننا في إسرائيل نفهم السلام على أنه يمكن أن يذهب الإسرائيلي من تل أبيب أو القدس، ويجتاز القنيطرة، ويصل دمشق، ويتسوق في سوق الحميدية، ويتذوق بوظة بكداش، ويعود سالماً غانماً!!. أما الوفد السوري، فكان جوابه: مفهومنا للسلام هو تحرير كل شبر من الجولان، وفلسطين من البحر إلى النهر، وأن يعود الفلسطينيون إلى بيوتهم وأرضهم ووطنهم، وانتهى المؤتمر عند نهاية هذا الكلام!!.

خلال محادثات القائد المؤسس مع الرئيس الأمريكي كلنتون، قال الرئيس الأمريكي: (السيد الرئيس هل ما زلتم أيها السوريون تقولون بعد كامب ديفيد ووادي عربة واتفاقات أوسلو: إن فلسطين هي الجزء الجنوبي من سورية وبلاد الشام.. فأجابه القائد بالجدية المميزة، نزداد اقتناعاً كل يوم أن سورية هي الجزء الشمالي من فلسطين والجولان في الوسط)..

ويوم اكتسح الجيش الصهيوني لبنان، وفرض رئيساً على شاكلته، وصنع اتفاقاً سماه اتفاق 17 أيار ليجعل لبنان مزرعة وسوقاً للعصابات الصهيونية، قال القائد المؤسس: إن هذا الاتفاق لن يمر، وإن كل بند فيه يحتاج إلى اتفاق، وكانت بعدها بطولات مدرسة تشرين وتضحيات المقاومة اللبنانية التي أبدلت المقولة التاريخية التي تبناها لبنان خلال الاحتلالين العثماني والفرنسي والقائلة: “إن لبنان قوي بضعفه” بالقاعدة التاريخية الجديدة والمشرّفة وهي: “أن لبنان قوي بشعبه، بجيشه بمقاومته الوطنية، بوحدة الموقف والرأي مع سورية العربية”..

وقد قدّمت سورية لتجذير ذلك وترسيخه في المجتمع والدولة اللبنانية الشقيقة العزيزة أكثر من /13/ ألف شهيد، وأسهمت بتحرير لبنان من الغزو الصهيوني والحفاظ على وحدته أرضاً، وشعباً، ومؤسسات.

لقد أحسنت وزارة الثقافة في إعداد كتاب (لك القوافي) الذي اكتنز بما تفتقت عنه قرائح الشعراء العرب من الثناء العاطر والوصف المبدع لإنجازات القائد المؤسس ومواقفه لتكون لأجيال الأمة العربية إنعاشاً لذاكرتها في القادم من الزمان، تحفزها على النضال، وتملأ حاضرها بالفخر بأحد من أجدادها العظام الذي حمل بريقها في معارك السياسة والسلاح، وحقق من الانتصارت، ورسّخ من المنطلقات والقيم الوطنية والقومية والعروبية، ما شكل منارة ومدرسة على مر الزمان، حيث أصبحت سورية في عصره المثل في التصدي والتحدي والصمود بوجه العواصف بفضل جيش عقائدي، وشعب أسطوري الصمود، وقيادة نقل الشعب الراية إليها من القائد الخالد لتبدع بسالة غير مسبوقة وحكمة قل نظيرها، وتحقق نصراً إعجازياً على الإرهاب التكفيري الوهابي الرجعي المتحالف مع أعتى قوى الشر في العالم.

تحية الإجلال والإكبار لروح القائد الخالد باني سورية العربية الحديثة ومفجر طاقاتها المبدعة والخلّاقة وحسبه، وحسبنا شرفاً أن صحف العالم تبارت يوم رحيله المدوي بالقول رغم زحوف البلايا والرزايا والمؤامرات فقد:( رحل ولم يوقّع)..

وحسبه قول الجواهري:

(قد كان حولك ألف جارٍ يبتغي        هدماًووحدك من يريد بناء)

(يا أيها البطل الشهيد أمضّه          شوق فزار رفاقه الشهداء)

(نم آمناً ستمدّ روحك حرة            وسط الكفاح رفاقك الأمناء).