ولادة قضية اللاجئين الفلسطينيين بين الترحيل والإبادة
المستشار رشيد موعد
قاضي محكمة الجنايات سابقاً
حين قرأت كتاباً بعنوان “ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين وحق العودة” .. للمؤرخين الصهاينة الجدد، ومنهم” بني موريس وشلوموساند وآبي شلالم، شعرت بخيبة أمل كبيرة لما احتواه هذا الكتاب، وتمنيت أن هذا التاريخ الذي كتبه الصهيوني بني موريس وغيره، كان ينبغي أن يدونه المؤرخون العرب، لأنهم أحق بهذا التاريخ من الصهاينة، أي “حق العودة”، ليصححوا مساره من المغالطات التي وقع بها الكتاب.
يقول بني موريس: “في أواخر شهر حزيران عام 1948 ظهرت لجنة غير رسمية “للترانسفير” أي الطرد والتهجير.. وقد بارك هذه اللجنة وزير الخارجية الصهيوني آنذاك “شرتوك”. سعت هذه اللجنة لإيجاد مؤسسات خيرية تعمل تحت اسم مساعدة اللاجئين الفلسطينيين لتوطينهم في الدول العربية، وزعمت أن منع عودة اللاجئين يستلزم تدمير قراهم، ومنازلهم التي طردوا منها فضلاً عن مصادرة أملاكهم.
مع نشر تقريره حول جهود الوساطة الدولية قال الكونت فولك برنادوت وهو سويدي الجنسية: “إنني أؤيد بقوة حق اللاجئين الفلسطينيين العرب في العودة إلى ديارهم في أسرع وقت ممكن، حيث لا توجد تسوية عادلة وكاملة إذا لم يتم الاعتراف بحق اللاجئين في العودة”.
وأضاف: “سيكون هناك إخلال في المبادئ الأساسية للعدالة إذا ما تم إنكار حق أولئك الضحايا الأبرياء في العودة إلى ديارهم في الوقت الذي يتدفق فيه المهاجرون اليهود إلى فلسطين بما يتضمنه ذلك من خطر إحلالهم بشكل دائم محل اللاجئين الفلسطينيين العرب”.
في 17/9/1948 وأثناء ذهابه إلى القدس كمن له أفراد عصابة من الهاغانا وشتيرن وأطلقوا النار عليه فقتلوه..
وتخليداً لذاكراه أصدر مجلس الأمن القرار رقم 194 المتضمن عودة اللاجئين والتعويض عليهم.
يقول تيودور هرتزل في كتابه “الدولة اليهودية”: سنحاول أن نطرد السكان الأصليين عبر الحدود، وأن نساعدهم في الحصول على عمل في البلدان الجديدة. يجب أن يحرموا من أي عمل في وطننا”.
في حين جاء يسرائيل زنغويل أحد أبرز قادة الحركة الصهيونية بالشعار العنصري الذي يقول “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”. وذلك بعد زيارته فلسطين عام 1887، وتابع: سنحاول أن نطردهم بحد السيف، ويعني بذلك شعب فلسطين.
أيد ذلك إبراهمام شارون شيدرون في كتابه “الامبريالية العربية” عام 1930 .. حيث قال: يجب ترحيل اليهود بالقوة إلى فلسطين .. وترحيل العرب بالقوة من فلسطين .. في حين كتب “فلاديمير زئيف جابوفتسكي مؤسس الحركة الصهيونية التحريفية، وهو الأب الروحي لكل من رؤساء الكيان الصهيوني العنصري بيغن وشامير وشارون، في مقال له تحت عنوان “على الجدار الحديدي نحن و العرب”:
من غير المحتمل التوصل إلى اتفاق مع العرب حول مغادرتهم الطوعية لأرض فلسطين وتحويل فلسطين إلى أرض تعيش أغلبية يهودية .. والبديل هو قيام دولة يهودية بالقوة خلف جدار حديدي لا يستطيع السكان المحليون عبوره..
ورد هذا الكلام منذ 75 عاماً، وهو يكرس الآن بجدار الفصل العنصري الاسمنتي الذي أقامه الصهاينة على أرض فلسطين ليفصل اليهود عن العرب بطول 650كم.
في عام 1948 طبّق الترحيل القسري الذي يعرف بالترانسفير على العرب الفلسطينيين من أرضهم ممزوجاً بالمجازر هنا وهناك، حتى أصبح ذلك تطهيراً عرقياً. وقدمت سلطات الانتداب البريطاني المساعدة للوحدات العسكرية الصهيونية المهاجمة لارتكاب المجازر وترحيل الفلسطينيين.
وكان الكاتب الصهيوني بني موريس أكد خلال مقابلة له في نيسان 1948: “أعطيت الأوامر لوحدات العاغانا بأن من واجبهم اقتلاع القرويين، وطردهم من ديارهم وتدمير قرارهم.” وكان بن غوريون، وهو أول رئيس وزراء للكيان الصهيوني العنصري المسؤول المباشر وبشكل شخصي عن مخططات الترحيل قال: “إن دولة يهودية تعيش فيها أقلية عربية غير قابلة للحياة.” وقد دافع بن غوريون عن الترانسفير بقوة في المؤتمر الصهيوني في زيوريخ بسويسرا عام 1937، حيث قال: “لماذا لا نشتري الأراضي في شرق الأردن لمن يريد الاستقرار هناك إذ كان من الممكن ترحيل العرب من الجليل إلى الخليل؟ لماذا لا نستطيع ترحيل العرب من الخليل إلى شرق الأردن وهي قريبة جداً؟”.
وقد علق بن غوريون على الظلم الذي سيقع على العرب من جراء الترحيل قائلاً:”الترحيل أهون بكثير من الإبادة”. ويقول المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي: “إن وعد بلفور في 2 تشرين الثاني 1917 كان بمثابة الورقة الرابحة في سباق محموم بين مجموعتين من المتحاربين في الحرب العالمية الأولى للفوز بدعم اليهود في النمسا وهنغاريا والمانيا والولايات المتحدة .. ولم يصدر هذا الوعد إلا بعد أن وافق عليه الرئيس الأمريكي ويلسون في منتصف 1917.”
وقد صدر بيان عن أهداف الحرب العالمية في الشرق الأوسط، جاء فيه:
إن بريطانيا العظمى تسقط كل التزاماتها ووعودها التي قطعتها للشريف حسين أمير مكة، وإنها تتبنى البيان الصهيوني بخصوص “إقامة وطن قومي لليهود”. وفي 19/6/1936 قال رئيس وزراء بريطانيا آنذاك في كلمة أمام البرلمان البريطاني: “لقد صدر وعد بلفور في لحظة هي الأكثر سوءاً في فترة الحرب .. الجيش الفرنسي في حالة تمرد .. والجيش البريطاني على مشارف الانهيار..
وأمريكا لم تكن قد دخلت الحرب..
والروس يفكرون في الخروج من الحرب..
فقررت الحكومة البريطانية التعاطف مع المجتمع اليهودي.”
وجاء وعد بلفور بتاريخ 2/11/1917 موجهاً من وزير الخارجية البريطاني إلى اللورد”روتشليد الصهيوني”.
كان هذا الوعد اعتداءً صارخاً على حق العرب، والقانون الدولي يدل على أنه غير قانوني وباطل، فلا يحق لمن لا يملك أن يعطي.
لأن القاعدة القانونية تقول: “فاقد الشيء لا يعطيه”.
وقد انتقده الكثير في بريطانيا، وكذلك في العالم، حيث احتج “اللورد كورنون” الذي أصبح وزيراً للخارجية البريطانية. قائلاً: “ماذا سيحدث لشعب فلسطين إذا طرد منها. لقد وجد هؤلاء في هذه الأرض منذ أكثر من 1500 سنة.. إنهم يملكون الأرض التي تعود لأجدادهم، ولن يرضى هؤلاء أن يُجردوا من أملاكهم لمصلحة المهاجرين اليهود أو أن يعملوا كجامعي حطب أو سقاة ماء لمصلحة المهاجرين اليهود”.
أما في السياسة الأمريكية، فنجد ازدواجية المعايير لها جذور قديمة وعميقة، حيث تعود إلى ما قبل مؤتمر السلام الذي عقد في باريس بعد الحرب العالمية الأولى 1919 والمبادىء الأربعة عشر التي أعلنها الرئيس الأمريكي ويلسون والتي كانت قابلة للتطبيق في كل مكان “باستثناء فلسطين”.
فالشعب العربي الفلسطيني لم يكن فقط مستثنى من هذه المبادىء.. بل تم تجاهله عمداً، فقد قال وزير الدفاع الأمريكي عام 1919 في مؤتمر السلام بباريس لبلفور آنذاك: “تمثل فلسطين حالة خاصة” معللاً ومبرراً استثناءها من المبادىء الأربعة عشر.. ومنها مبدأ تقرير المصير الذي منح لجميع الدول في ذلك المؤتمر.. وتابع يقول: “نحن لا نتعامل مع رغبات مجتمع موجود، بل نعمل لإعادة تشكيل مجتمع جديد”، حيث أوعز ويلسون بالطلب إلى اليهود للهجرة إلى فلسطين للاستقرار فيها. وأوعز أيضاً لعصبة الأمم آنذاك أن تعترف بفلسطين بلداً يهودياً، حالما تصبح بالفعل “دولة يهودية” وفق “وعد بلفور” المعلن عام 1917 .
علماً أن اليهود في فلسطين كانت نسبتهم آنذاك 6٪ من مجموع سكان العرب الفلسطينيين البالغ عددهم 800 ألف نسمة.
يؤكد القانون الدولي في عدد من وثائقه أن طرد السكان الأصليين من ديارهم يشكل جريمة حرب، وهذا ما أيدته الوثائق التالية:المادة التاسعة من ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان عام 1948 وكذلك المادة 15 منه.كما أيّد ذلك البروتوكول الرابع للجنة الأوروبية لحقوق الإنسان عام 1950 وخصوصاً المادة الرابعة منه.
أما محكمة “نورمبرغ” التي شكلت لمحاكمة مجرمي الحرب.. فقد اعتبرت في أحد قراراتها أن “طرد السكان بالقوة يعتبر من جرائم الحرب”. وحكمت وبشكل لا يقبل التأويل بما يلي: “إن الطرد الجماعي وبالقوة ينطبق على اللاجئين الفلسطينيين خصوصاً عندما يتم على أساس التمييز العرقي أو الاثني أو الديني أو السياسي”.
كما أعلنت هذه المحكمة أن طرد السكان خارج الوطن جريمة حرب، أو جريمة ضد الإنسانية استناداً لما نصت عليه المادة 46 من نظام تلك المحكمة واعتبرت منع اللاجئين أو المطرودين من العودة أعمالاً غير قانونية.
أما ميثاق جنيف الرابع 1948 الذي اعتبر ترحيل السكان جريمة حرب، فقد نصت المادة 49 من المعاهدة مايلي: إن الترحيل الفردي أو الجماعي وعمليات الطرد للأشخاص المتمتعين بالحماية من الأراضي المحتلة إلى أراضي الدولة صاحبة سلطة الاحتلال أو إلى أي أراضٍ أخرى، ممنوع بغض النظر عن أهدافه لأن هذه العمليات تتسبب بخلق لاجئين. في حين جاءت مبادىء الاتحاد الدولي لرجال القانون في المبدأ رقم 29: “كل دولة تحول إنساناً إلى لاجىء ترتكب عملاً خاطئاً بنظر القانون الدولي، وهذا يخلق التزاماً بتصحيح ذلك الخطأ المرتكب”.
وتضمن المبدأ الثالث منه على مايلي: “إن خلق مشكلة اللاجئين في بعض الأحيان يجب أن يعتبر عمل إبادة للجنس البشري إذا ارتكب بقصد تدمير جماعة عرقية أو قومية أو دينية بشكل جزئي أو كلي.
لا بد للمجتمع الدولي أن يأخذ بالحسبان أن سياسة الكيان الصهيوني العنصري تجاه الفلسطينيين تقوم على إبادة الجنس، وهو يمارس الآن ضد الشعب الفلسطيني بما في ذلك المجازر اليومية التي نسمعها ونشاهدها، والهدف منها تدمير الثقافة والتراث والإرادة.. كل هذا في معرض التصدي لنضال شعب يقاوم في سبيل التحرير وتقرير المصير والعودة. وقد جاء في نص المادتين الأولى والثانية من ميثاق الأمم المتحدة الذي أقرّته الجمعية العامة للأمم المتحدة: “الإبادة الجنسية جريمة ثابتة ومؤكدة في نظر القانون الدولي سواء ارتكبت في أوقات الحرب أم السلم، ويعاقب عليها القانون الدولي”.
ويراهن الكيان الصهيوني العنصري اليوم على أن من ولد في فلسطين وخرج منها عام 1948، وهو الذي كان مشدوداً لأرضه وذكرياته فيها، يراهن عليه بأنه إذا انتهى هذا الجيل تنتهي معه القضية، ولا مشكلة في الموضوع. وقد ثبت عكس ذلك، فمن ولد في الشتات خارج أرضه هو أقوى عزيمة وشكيمة وارتباطاً وانتماء لوطنه وأرضه، وإيمانه بالعودة أكثر من غيره كما نشاهده اليوم على أرض فلسطين في “مسيرة العودة” يواجه العدو الصهيوني بصدور عارية وإرادة قوية لتحقيق عودته إلى وطنه المغتصب.