يا دجلة الخير (6)
د. نضال الصالح
لم أكد أغادر الصالة الداخلية لمطار بغداد، حتى استقبلني اثنان من الشعراء العراقيين كنت التقيتهما في غير مهرجان شعري عربي، وفي غير مدينة عربية، ولم نكد الثلاثة نبدأ خطونا نحو الباب الخارجي، حتى رأيت فتاة في نحو الخامسة عشرة ترفع بين يديها لافتة صغيرة مكتوب اسمي فيها، وإلى جانبها سيدة ما إنْ تقع عينا أحد عليها، حتى يتأكّد له أنّها والدة تلك الفتاة، أو هي تلك الفتاة نفسها وقد عبث الزمن بملامحها، وهتفت: “خزامى”، ثمّ هُرعت إليها، ولم أكد أفتح ذراعيّ على آخرهما، ثمّ أنتبه إلى دهشة العيون حولي، عيون الصديقين وآخرين، حتى اكتفيت بالقول من جديد: “خزامى”، وعندما اكتفت خزامى بالقول: “الله بالخير”، ثمّ أتبعتها بالكلمتين: “نوّرت بغداد”، اكتفيت بمدّ يدي مصافحاً، ومردداً: “بغداد منوّرة بأهلها، بكِ وبهذه الحسناء الصغيرة، أكيد ابنتك”، والتفت إلى صديقي الشاعرين، وأكملت: “وبالعزيزين…”، ثمّ قدّمتهما إليها، وعرّفتهما بها قائلاً: “السيدة خزامى…. صديقة الدراسة في جامعة دمشق قبل…..”.
قالت خزامى موجهة كلامها إلى الصديقين: “الأستاذ… حصّتي هذا اليوم، ولكما بقية الأيّام”، ولم تتردد في الإيماءة إلى السيارة القريبة منا: “تفضّل”، وفي متابعة كلامها إلى الصديقين: “في أيّ فندق حاجزين للأستاذ؟”، وكان الصديقان ما يزالان يفيئان إلى ظلّ الحيرة التي عقدت لسانيهما منذ بوغتا بخزامى تشاركهما، مع طفلتها، استقبالي في المطار. قال أحدهما: “الأستاذ ضيفنا”، وأكمل الثاني: “اسمحي لنا بأن نقوم بواجب الاستقبال، ثم مثل ما يريد الأستاذ”، فقالت خزامى: “ما يخالف، بس أكون معكم في الاستقبال”.
طوال الطريق من المطار إلى الفندق كنت موزّعاً بين غير شأن: نهم عينيّ وروحي لرؤية كلّ شيء، دجلة والنخيل والشوارع والساحات والأبنية، وترحيب الصديقين وأسئلتهما لي عن الشام، عن الحرب والأصدقاء والثقافة، وخزامى التي كانت تقود سيارتها الصغيرة وراءنا، وأستعيد تلك السنوات التي مضت وخزامى وسامي وأنا نضاحك الحياة، كما كان كلّ شيء في الشام، في سورية، يضاحك الحياة.
على عجل، واستجابة لخزامى، أنهى الصديقان إجراءات إقامتي في الفندق، وفي الطريق منه، من الفندق إلى منزل خزامى في شارع المنصور، كانت روحي تنشج بغير حزن: أشجار النخيل المرهقة باليباس أو تكاد، والمنطقة الخضراء المسوّرة بجدران اسمنتية عالية، ودجلة المتثاقل في مشيته كشيخ طاعن في الشجن، وبغداد كلّها التي لم أرَ بغداد فيها.
لم أكد أدخل غرفة الاستقبال في منزل خزامى، حتى تجذرت قدماي حيث الباب، وأفتح عيني على آخرهما لأتأكد من أنني ما رأيت في صدر الغرفة، على جدارها المواجه لي، هو ما أرى حقاً، ثمّ لم تكد خزامى تمسك بي متلعثماً بسؤال صريع بين شفتي، بل بأسئلة، حتى عاجلتني بإيماءة من رأسها وعينيها أن “نعم”، وكانت تعني الصورة التي كنت أرى، صورة……. (يتبع).