ثقافة

رحل “ماركيز” بعد أن تناول “عشبة جلجامش” عشبة الخلود

الحديث عن رحيل الكاتب الكولومبي “غابرييل غارسيا ماركيز” الروائي الأهم في القرن العشرين، يبدو ترفا في ظل الموت اليومي الذي نحيا على إيقاعه وكأنه قدرنا، إلا أن رحيل قامة فكرية وإنسانية بقامة “غابو” هو لأمر يستحق الوقوف عنده قليلا، حتى ونحن نجري  لننجو بأرواحنا هربا من قذيفة هاون.
رحيل “ماركيز” هو غياب جسدي محزن قليلا لا أكثر، بالنسبة لمن خلق فيهم هذا الرجل حيوات أخرى، جاورت حياتهم الشخصية بطريقة ما، حيث لا خلود لائق بفانٍ ربما، كالخلود الذي أنتجه بنفسه لنفسه، خلود طازج وحي يتنفسه من أحب كتابات هذا الرجل وشخصيته النبيلة.
ماركيز أكل عشبة جلجامش، عشبة الخلود التي مات دونها صاحب “انكيدو المتفجع”، التهمها وصار مفعولها يجري بدمه، مذ جعل حتى أكثر القُراء غرابة، يجدون في روايته شيئا خاصا بهم، يرون في شخوصه الحكائية، شخوصا من لحم ودم، يتابعون حيواتها بكثير من الشغف والدهشة بالتحولات المفاجأة التي يرسم لهم أقدارها صاحب “ذاكرة غانياتي الحزينات” يعنيهم أمرهم كثيرا، ما مصيرهم؟ لماذا اختاروا هذا النهج في حين كان لديهم عدة خيارات أخرى أكثر حظا ربما؟ هذا ما يفعله سحر ماركيز الروائي، يؤنسن المستحيل ويجعله بديهة، يوقعك بدهشة المتخيل لشدة واقعيته، ويورطك بالواقعي أمام دهشتك من استحالة أن يحدث، ومن منا لم تفعل به روايات صاحب “مئة عام من العزلة” هذا الفعل؟ لا زلت حتى اللحظة أشم رائحة البارود التي انفجرت في غرفة جنرال “بويندا” وكأنها تعبق في الغرفة المجاورة، لا زال الرحيل القاسي لفتاة الفراشات الصفر والعقارب “ريميديوس”، رحيلا مدويا بالنسبة لي وكأن حدوثه المستحيل وقع وانتهى الأمر، وما زال البطريرك الدهري في روايته “خريف البطريرك” (الأقرب إليّ باعتبارها كانت مفتاحي السحري لولوجي تلك العوالم المذهلة لهذا المبدع)، يقفل أبواب القصر كل ليلة بعد أن يطمئن إلى مخابئ عسله، وحليب أبقاره، وقابلية نسائه لاستقباله في أي وقت.
الميزة الأهم برأيي لنتاج “غارسيا” هي أن الشخصيات التي يكسوها بالحياة للدرجة التي يشعرك بها بأنك حصل وصادفتها في حياتك، لا يمكن للقارئ إلا أن يحبها ويتعاطف معها، مهما كانت قاسية وشريرة أو ذات سلوك يرفضه البشر عادة.
يُعتبر “غابو” روائي الشعوب، وهذا قول لا يشك بحقيقته حتى من لم يعرفه شخصيا من قرائه الكثر في العالم، ببساطة لأن صدق نتاجه الأدبي والفكري، لامس الجميع، شعروا به وعرفوا من خلاله، كيف يكون الأدب انعكاسا جليا لروح خالقه، وبالضرورة الأدب الصادق لا يصنعه إلا إنسان صادق. إنسان عندما رحل خرج العالم كله لوداعه، حتى الذين يقتاتون بالدموع منهم.
وداعا غابو، وداعا يا صديق ليالي الألفة والدهشة والمتعة الطويلة، نم بسلام يا صديقي ماركيز..فمثلك لا يموت، مثلك عصي على الزمن محو حبره.
يعد “غابرييل غارسيا ماركيز” الحاصل على جائزة نوبل للآداب 1982 من أشهر الروائيين الذين ظهروا في العالم الثالث وعالم الرواية في النصف الثاني من القرن العشرين. ومن أشهر الوجوه العامة المعروفة في داخل أمريكا اللاتينية والعالم الأول وشهرته لا تضاهيها شهرة أي كاتب في العالم، ففي النصف الأول أجمع النقاد على مجموعة من كبار كتاب الرواية فوكنر، جويس، وولف، كافكا وبروست ولكن في النصف الثاني لا يوجد إلا كاتب واحد عظيم ومشهور وهو ماركيز”.

تمام علي بركات