ثقافة

أبعد من أسئلة في جدوى الإبداع

أحمد علي هلال

لعلنا لا نضيف جديداً إن قاربنا ما يضطلع به برنامج تاريخي عتيد، طاول المشهد الثقافي برموزه وعلاماته واتجاهاته، ليقدم صورة عن الجدل والسجال فيما يخص الثقافة إنتاجاً ومعرفة وتحقيباً وفي أكثر من اتجاه، وذلك بالطبع ما يسم دينامية برنامج «كاتب وموقف» الذي يعده الإعلامي والأديب عبد الرحمن الحلبي، والذي أصبح لبرنامجه تقاليد ثقافية لافتة، من حيث إثراء الجدل بمسائل ثقافية بعينها، ومن ثم الاضاءة على مفاصل تشرك معها المتلقي في علاقة تشاركية كما هو مفترض، لأن الحوار –كما نعتقد- هو واحد من الأفعال الحضارية بامتياز، ولأن الثقافة هي الحاجة العليا على الدوام، في سؤالها المزدوج، عنها وعن من ينتجها، فهي سادنة الحوار وباعثة الأسئلة الكبرى، وذلك التمهيد الضروري بطبيعة الحال، هو اغناء للسجال ومحاولة لطرح تلك الأسئلة الجدية، بل استعادتها بوصف الأدب والإبداع خطابان معرفيان بامتياز، فمن وحي ندوة بعينها كان يؤمل منها أكثر مما تبدى «محاكمة» لمبدع كتب رواية شغلت الناس طويلاً على مستوى تيماتها وبنيتها الفنية، ومدى ما تضيفه للمبدع في سياق منجزه، ومدى ما يضيف منجزه للسياق الثقافي العام.
ومن هذه الأسئلة: هل باتت مهمة الروائي أن يتولى شرح روايته في برنامج إذاعي محدد الوقت والسعي للتعبير عن مقاصده كلها، فضلاً عن بياناته بأنه سوف يتجاوز هنة هنا أو هناك في إطار برنامجه السردي كما تواضعنا على ذلك في ممارستنا النقدية.
والمعلوم أن الرواية حال قراءتها ستترك مجالاً واسعاً لتأويلها ولاكتشاف فجواتها المحتملة من لدن قرائها، وعلى الأرجح أن قارئيها سيمارسون –بحكم مرجعياتهم- الفكرية والفنية بآن معاً، أحكاماً تذوقية وفي مستوى آخر جمالية من شأنها أن تضيف لعمل بعينه رؤى جديدة، مما تحيله الرواية على مستوى منظوماتها الإشارية وعتباتها السردية وتواتر مقولات كاتبها.
والشاهد هنا أن الروائي ليس من مهمته شرح الرواية، فذلك ما يشكل متناً مخاتلاً لأنها تظل بالنسبة لديه كما أراد كتابتها، لكن وعلى الأرجح أن لا ذنب للروائي-المبدع في هدم التأويل المحتمل الذي يقوم به قراءه المحتملون أيضاً، ما يشي بأن الطريقة التي قدم بها قد جعلته في موقف كهذا، وبالطبع فنحن لا ننتقص من أهمية ذلك التقديم الواعي والعارف بماهية المبدع كما الإبداع، فمن شأن التقديم هنا أو إدارة الحوار بتعبير آخر أن تقف على مفاصل بعينها لتترك لتأويل القارئ أن يشكل المعنى، والمعنى هنا جمعي وفردي معاً وليس ذلك فقط، بل يذهب إلى قراءة يستشرف بها الفعل الروائي كتجلٍ ثقافي وإنساني، لكن ما حصل أشبه بمراسم لموت التأويل، ولا نقصد أن التأويل حصري في مكان وزمان بعينهما، ولكن من شأن الحوار الذي اُفتُقد إلى حد ما، وظل الوقت سجالاً في المنصة فقط، ومحاولة بدت وكأنها فردية لاستبطان عوامل المبدع، لا نخفي أن ذلك يشكل متعة ما للمتلقي الجالس والذي ينتظر بدوره فرصة للتعليق أو الإضافة!.
ما حدث لا يشي إلا بما ينقض تقاليد الحوار لتكتمل المتعة والمعرفة، ويكتمل معها جدل بصدد الإبداع العابر للزمن، صوب قيمة متحققة.
فهل كنا على موعد يقول لنا: كيف تُكتب الرواية في ساعتين، وكيف يتولى المؤلف بالذات دور القارئ، وهو بطبيعة الحال قارئ لعمله، سيما وأنه انفصل عنه، ما نتساءل به هنا على وجه الدقة، ليس من مهمة الروائي على الدوام أن يتولى شرح روايته بكاملها، ربما كان من شأنه فحسب الإضاءة على مفاصل بعينها تمثل حوافز القراءة، وتمكن من تلك التغذية الراجعة عند المتلقي، واللافت أن الناقد الذي أُوكلت له مهمة كشف النص، واستخلاص قيمه الفنية لم يُمنح وقتاً كافياً، ليضع الحضور في صورة الرواية كبنية كلية، وليس كشذرات منتقاة وفق أهواء معينة، للتعليق عليها، باختزال غير عادل!.
فهل بتنا في مرحلة ما بعد التأويل، ليكون -الجمهور- مرة أخرى مجرد شاهد يتلقى دروساً في فن الرواية والقصة، والجمهور المثقف هو شريك في حوار الإبداع، وليس ضيفاً احتفائياً عابراً، ليكتمل برنامج إذاعي في سياق خطة ما.
لطالما مثل الابداع على الدوام المشترك الدال مع قارئ سواء كان في النص أو خارجه، ونعلم أن الرواية وهي قُرأت مرات عدة، مازالت تستحق الإضاءة عليها، وليس محاكمتها فحسب على نحو ما تجلى في ندوة كاتب وموقف، وما تركته من أسئلة شاقة عليه، وعلى الأدب كخطاب معرفة لكنه ليس مبتسراً.