ثقافة

(إكليل الدم) لا حيادية في مشهد الموت

ساعيا لفرجة مسرحية مختلفة عن عروضه السابقة، يلجأ الفنان زيناتي قدسية إلى كسر النمط التقليدي للحكاية الدرامية في عرضه الجديد إكليل الدم، فليس من حكاية تحكى إنما هي مقاطع متداخلة من حياتنا العيانية يستطيع المشاهد صوغها كما يريد في ختام العرض، فسريالية الواقع عكسه قدسية وفريقه في عرضه عبر مشاهد تحمل مفاهيم عامة (العدالة- الاستبداد– الحرية..) هذه المفاهيم تكثفها عدة مسرحيات– مشاهد ضمن المسرحية ككل حسب أسلوب عرض داخل العرض..لكن يبقى مفهوم الإرهاب طاغيا على المفاهيم الأخرى في محاولة لمحاكاة الواقع.
يقول السؤال هل تستطيع مجموعة بشرية أن تنأى بنفسها عن محيطها القاسي والمؤلم هربا من تأثيراته؟ وهل تأسيس مكان قصي مجدب يعزلنا عن واقعنا؟ هنا يجيب العرض أنه مهما حاولنا تغليف أنفسنا عن صراعات هذا العالم وتشابكاته لن نستطيع، فنحن وان أغلقنا على أنفسنا الباب، فالعالم في داخلنا وآثامنا وتناقضاتنا تبقى محركنا للتفاعل مع محيطنا بغض النظر عن رغباتنا.. مجموعة الشخصيات في (إكليل الدم) تحمل مفاهيم خاصة عن العدل والحرية والاستبداد وتعيش في خرائب مهجورة..لكن يقتحم عزلتها ضيف يتقاطع معها  في نهجها، فهو ينأى بنفسه عن العالم كونه يحمل الكثير من الآثام ولديه هاجس تنظيف ما في داخله من شرور من خلال الانكفاء على نفسه، لكنه يكتشف أن هذه المجموعة من الناس التي التجأ إليها في هذه البقعة من الأرض المؤسسة بشكل غريب  بعيدة عن الناس والبشر وتجليات الروح البشرية، وهذا الأمر يضاعف من آلامه وحزنه فلا يألف المكان ولا المكان يألفه فيختار الرحيل.
يعتمد قدسية أسلوب المسرح داخل المسرح الذي اشتهر به (الإيطالي لويجي بيراندلو) سعيا لتقديم مستويات متعددة للفكرة المطروحة، لذلك لمجموعة الشخصيات في العرض خياران إما الانعزال وبناء أسوار عالية بينهم وبين البشر والمحيط الاجتماعي- السياسي، وإما الاندماج بالنسيج الاجتماعي ومفاهيمه وقيمه وسياساته. وهنا يريد المخرج كما أعتقد إيصال رسالة للحياديين في الصراع الدموي الدائر في بلداننا وخاصة سورية مفادها عليكم التحرك والخروج من صمتكم واللحاق بسياسة المواجهة، المواجهة مع من؟ مع الإرهاب والتكفير وتيارات قاطعي الرؤوس، ففي مقدمة المسرح يتوضع رأس مقطوع في العديد من المشاهد كتحذير لكل من هو صامت للتحرك قبل أن تلتهم سيوف التطرف رأسه.
العرض هنا كما يبدو غير معني بأسباب الإرهاب ولا بآليات صناعته وإنتاجه، هو معني بالنتائج رغم أن المشهد الحالي مرتبط بعشرات السنين من سياسات الاستبداد العربي والظلم وغياب العدالة وقمع حركات التنوير الفكرية والسياسية وفشل كل خطط التنمية لأنها قائمة على الإفساد والفساد المنتج من طغم فاسدة قمعية هي وجه آخر للتيارات العدمية الإرهابية أو قل هي الابن الشرعي لها هذه السياسات التي لا تنتج إلا العنف والعنف المضاد، ولكي لا يبقى المشاهد أسير التشنج خلال مشاهد العرض يدخل المخرج فقرات كوميدية وفقرات راقصة تكسر من حدة التوتر وتريح المشاهد لكي يلتقط نفسه من قتامة المشهد، حيث نرى رقص باليه ورقص هندي مع موسيقى لام كلثوم، مما يضفي نوع من السريالية والغموض على العرض شبيه بسريالة الأحداث التي نعيشها.
لكن دخول الأعمى (يؤديها زيناتي نفسه) في بعض ذرا المشاهد ملقيا قصائد أقرب إلى الصوفية فيها تحذير من مغبة الصمت، فهو يجول على الخشبة مع صمت الممثلين الثمانية محرضا ودافعا دواخلهم إلى التحرك قبل فوات الأوان بالاستعانة ببعض قصائد محمود درويش وشعراء آخرين
في إكليل الدم ثمة بساطة في الديكور والأزياء (أشجار ميتة، جرار متكسرة، وأزياء بالية، ودواليب..) هي بيئة مفترضة لعالم انعزالي. إذا هي عدة مفردات وأدوات سينوغرافيا تشير إلى حالة الضياع، والتشتت، التي يعيشها أبطال العمل، توحي بأنهم خارج نطاق الحياة، في حين تتداخل الموسيقا الغربية (راب) مع مشاهد القتل المتوحشة مع أزياء معاصرة وأخرى رثة وطرازات قديمة توحي بتداخل الأزمنة والأفكار والصراع بين التوحش والمدنية.
في أغلب عروض الفنان زيناتي قدسية وهو (من أكثر الفنانين وفاء لفن المسرح) ثمة طغيان لأسلوبه التمثيلي الخطابي الكاريزمي على ممثليه، فأغلب من يعمل تحت إدارته كمخرج يرغب في تقمص زيناتي وربما هي رغبة المخرج كونه هو السيد في العرض المسرحي، لذلك كنا أمام نماذج تتشابه مع زيناتي الممثل في أسلوب الأداء والحركة، خاصة الفنان قصي قدسية الذي يعمل مع والده في أغلب عروضه فهو في أدائه يكاد أن يكون نسخة طبق الأصل عن الأب، رغم خفة دم قصي وحركاته السلسة على الخشبة، هذا لا يعدم محاولة ممثلين آخرين كأسامة تيناوي وفادي حموي وزهير بقاهي وأسامة جنيد ورائد مشرف، تنويع الأداء لإضفاء الحيوية على العرض.
احمد خليل