ثقافةصحيفة البعث

خلجات روح

كثيرا ما أمضي سهر الليل في سماع الأغنيات الطربية، فأنتقل بين السيدة أم كلثوم والعندليب عبد الحليم، والوردة الجميلة وردة الجزائرية، ولا يمر ليل من دون الاستماع بشغف إلى صاحب الصوت الدافئ محمد عبد الوهاب. لكنني كثيرا ما أعيش في عوالمهم، أعيش مع كلماتهم، فينفطر قلبي حينما يناشد عبد الحليم: ابقى افتكرني، حاول، حاول.. تفتكرني. وأشعر بالقوة والثبات حينما يصدح صوت السيدة تقول: أنا لن أعود إليك.. مهما استرحمت دقات قلبي. وأشعر بالحنين المفاجئ حينما تغني وردة: خليك هنا خليك.. وبلاش تفارق.

اليوم قررت الكتابة فقط، سأعيش في عوالمي أنا.. وأطرب لألحان كلماتي فقط.

أحضرت أوراقي، ورتبت أفكاري، وبدأت أدون كلماتي الأولى:

مساء الخير يا صديقي.. هذه الأيّام تغريني الكتابة، تنقذني من أحاديث البشر السطحية والتافهة.. أشعر بأنّني مللت الجميع.. مللت الأحاديث السطحية والعادية، مللت الأصوات المتشابهة، والنظرات المتشابهة.. يسرقني فجأة صوت نجاة الصغيرة تغني بعذوبتها المعتادة وكأنها تتم الحديث عني.. إلا أنت. ولكنّي أنظر إليها نظرة استنكار، ألومها كيف قطعتْ عليّ سلسلة أفكاري.. وحولت تفكيري إليها..

أتابع الكتابة متناسيةً صوتها..

الجميع في هذه الأيّام منساقون وراء الحداثة.. ووحدها العراقة التي ألفتها في حديثك.. جذبتني.. ربما أحدثتَ في حياتي ما أحدثته الأشياء الجديدة.. كما الرّبيع في أوّل قدومه.. كما المطر في قطراته الأولى.. هي فقط روعة الأشياء الجديدة..

لكن عبد الوهاب يهز برأسه قائلا: لا.. لا تكذبي..

ألتفت إليه: لكني لا أكذب يا صديقي.. إنني حقا أقول الحقيقة، هي فقط روعة تحدثها البدايات، قد لا تستمر للنهاية.. لكنها مدهشة، ومذهلة حقا.

ألتفت إلى وديع الصافي الذي يقول: رح حلفك بالغصن.. وقبل أن يتم كلامه أقاطعه.. لا تحلّفني… سأقول الحقيقة.. فأكتب: شيءٌ ما يجذبك في أحدهم.. هو فقط غرابته، بعده عن عشوائية الغير ونمطيّتهم التي مللتُها.. هي الابتسامة اللطيفة، والنظرات الدافئة.. هو شعورك أنك ترى نفسك في عينيه، وتسمع نداءاتك في صوته.. دون أن تنطق بكلمة واحدة..

ويهزأ مني عبد الحليم مطلقاً العنان  لصوته: أول مرة تحب ياقلبي…وأول يوم أتهنى.. وتغني السيدة أم كلثوم وكأنها تتم ما بدأه العندليب: الحب كده، مش عايز كلام.. الحب كده، فأرد عليها: ليس حبا، هي صداقة.. رفقة ابتسامة… ورفقة حكاية.

فجأة تفتح والدتي باب الغرفة.. فيختفي أصدقائي كلّهم.. تجدني والدتي لوحدي.. أسامر الكتابة والموسيقى ولا شيء سواهما.. فتسألني بدهشة: كأنك تتكلّمين مع أحد؟.. فأضحك وأجيب: لا.. إنّني أغنّي فقط.. تبتسم غير مصدقة، وتخرج، مغلقة الباب وراءها..وأنتظر لحظات ليخرج أصدقائي.. ولكنهم لم يخرجوا، فأناديهم.. أين أنتم؟ لم يبقَ أحد سواي.

إذا سأعاود الكتابة…

فتطل فيروز برأسها قائلة: ما في حدا.. لا تندهي ما في حدا. لكن كارم محمود يبتسم منشدا: مشغول عليك مشغول.. مقدرش أغيب عنك، فأبتسم له وأقول:  فلنسهر إذا.. فترد علي فيروز: والسهرة.. سهرة حب.

يطل الجميع مبتهجين.. ونغني.. نغني إلى أن تشرق الشمس.. أودّعهم.. وأذهب للنّوم.. لكنّهم لم يناموا.. مازلت أسمع أصواتهم تغنّي في الغرفة المجاورة.. غير أن النّعاس كان أقوى مني.. وأخذني إلى حلم جميل.. كما جمال أصدقائي..

مادلين جليس