فن السيناريو الناجح.. “عدنان ولينا” مثلاً
من يذكر منكم كيف تعرفنا على الشخصية الكرتونية الشهيرة “عدنان” أو “كونان” الاسم الذي تحمله هذه الشخصية المدهشة، في النسخة الاصلية من المسلسل الكرتوني “فتى المستقبل كونان” الفتى الذي سينقذ البقية الباقية من البشر من فناء محتم آخر؟.
عرّفنا “ميازاكي”، أحد أعظم مخرجي ورسامي الرسوم المتحركة اليابانية، على بطل القصة المأخوذة عن رواية “المد المذهل” للكاتب “ألكسندر كي” في الحلقة الاولى من المسلسل على الشكل التالي: فتى يصارع اعتى حيوان بحري، سمكة قرش يفوق طولها طوله بخمسة اضعاف، ويصل وزنها إلى اضعاف وزن عدنان، الفتى النحيل المعتدل القامة، صاحب الجسد المتناسق، الفتى الذي كسرت سمكة القرش رمحه، سيقف على صخرة بمنتصف المحيط وهو ممسك بنصف رمح، قبل أن تقفز السمكة لتلتهمه، فيقفز عليها ليطعنها بالبقية الباقية من الرمح، وليغوصا في قاع بحر مكتظ بالأبنية والسفن الغارقة “لاحظوا بيئة الحدث”.
سينقلنا “ميازاكي” إلى مشهد آخر يجلسنا فيه على الشاطئ، لنشاهد زعنفة قرش تظهر رويدا رويدا وهي تقترب من الشاطئ، دون ان نعرف من فاز في صراع البقاء هذا، إلى ان يخرج عدنان وهو يحمل السمكة على ظهره وهو يسير نشيطا.
بهذه الطريقة قال لنا مخرج العمل: لا تستغربوا الافعال الغرائبية التي يستطيع عدنان أن يقوم بها، والتي لن تبدو منطقية في الكثير من زمن الفرجة، كأن يقفز عدنان من على ظهر برج عال جدا، فوق طائرة وينجو من الموت، أو أن يستطيع هزم اكثر من خمسين جندياً، قدموا ليقبضوا على “لينا”، الفتاة التي سوف تغير حياة عدنان وتقلبها رأسا على عقب، بعد أن يخبره عصفور وهو عائد الى جده بالسمكة عن مكان تواجدها “لاحظوا مهارة الكاتب في تقديمه السريع لصفات البطل، فالفتى الذي استطاع أن يقتل سمكة قرش، تألفه الطيور حتى أنه يفهم لغتها” وبالتالي سوف ندرك أن هذا الفتى قاتل الوحوش، ليس إلا شابا طيب القلب ظريف المعشر، حتى أن الطيور البرية الصغيرة لا تخاف منه بل وتحبه.
ما أردت سوقه عن ذكر مثال هذه الشخصية، التي استطاعت ان تحافظ على انتباه المتفرج وتشده اليها في مختلف مراحله العمرية “طفل– مراهق– اربعيني”، دون أن تفقد شيئا من بهجتها ودهشتها، منذ عام 1978 –حتى تاريخه، أي 36 عاما ويزداد شبابا فعلا هو كيف يجب التركيز على بناء افعال الشخصية وردود افعالها وتطورها الطبيعي بناء على سماتها في السياق العام للحكاية، بحيث أن افعالها المستقبلية خلال مراحل تقدم العمل، ستكون منسجمة مع صفات البطل رغم غرابتها، والاهم أننا لن نجد تلك الغرائبية غريبة، بل كنا نرى من الطبيعي أن خوارق “عدنان” الخارجة عن الطبيعة أمر طبيعي.
الرسالة، أيضا أو جملة الرسائل التي حملها العمل، والتي ستبقى صالحة لوقت طويل آخر، على اعتبار أن الحكاية كلها تدور في المستقبل، ومتى؟ بعد حرب عالمية طاحنة، أفنى فيها سكان كوكب الارض بعضهم البعض، ولم ينجو إلا القليل منهم، “لاحظوا ايضا وجه الشبه في عدنان ولينا ومسلسل “ضيعة ضايعة” الشهير، الاحداث تدور ايضا في المستقبل، وفي بيئة متشابهة جغرافيا، من تلك الرسائل التركيز على دور الفتية في بناء اليابان التي خرجت مدمرة من الحرب العالمية، وإقناعهم بأنه لا شي مستحيل، فما دام الانسان موجودا، تبقى الاوطان التي مات لأجلها، الشعب الياباني الآن هو الشعب الاكثر تنظيما وتكيفا مع محيطه من بين شعوب الارض، وقام الفن الكرتوني الياباني بدور كبير في بناء وعي الشبيبة اليابانيين والعمل على تعبئتهم النفسية، لجهد جبار في بناء البلد التي خربتها الحرب.
الكتابة فعل شاق جدا يصفها “لويجي برانديلو: بأنها فعل سهل جدا”، فقط على الكاتب أن يحدق إلى الورقة حتى ينزف جبينه، وتعتبر كتابة السيناريو الجيد من اعقد انواع الكتابة، ولها قواعد وضوابط صعبة جدا تحتاج إلى مهارات ادبية وفكرية وثقافية متنوعة، فالسيناريو المكتوب بطريقة جيدة، هو الاساس الاول لصناعة فرجة تتوفر فيها كل عناصر شد الانتباه وبالتالي التأثير في المشاهد.
للأسف ما نراه اليوم وما رأيناه سابقا في العديد من الاعمال الدرامية السورية “سينمائية– تلفزيونية– مسرحية” جعلت الجمهور بأنواعه يطلق حكم قيمة يفيد بمدى تدهور المستوى الفني لهذه الاعمال، الدراما التلفزيونية ليست بخير والسينمائية والمسرحية أتعس حالاً.
كثيرة ومتعددة هي الاسباب التي أدت إلى تدهور وضع الدراما السورية إلا أننا، وبتركيز الحدقة على القاسم المشترك في تدني مستوى هذه الاعمال، سنرى أن ما يحكم فشلها عنصر واحد بشكل خاص وهو: الاستسهال في حرفة كتابة السيناريو، بعد أن اصبحت مهنة الكتابة الدرامية مهنة من لا مهنة له، وهذه ليست تهمة ملقاة جزافا، فالمستوى الفني والفكري للعديد من الاعمال الدرامية التي تابعناها في العشر سنوات الاخيرة، يثبت ما توجهنا به وطرحناه، والأمثلة متعددة ابتداء من “النكت” السمجة المصورة وليس انتهاء بمسلسلات غابات السيقان والأورام “البوتكسية”، ومن الابواب وما تخفي وراءها إلى القصص المركبة على واحدة من “الطبخات” السورية، والقدود المياسة لحسناوات هذا النوع من الاعمال بحيث اننا صرنا نرى أعمالاً درامية متنوعة بشخصيات لا يوجد بناء درامي لأبسط افعالها، حتى أننا نكاد لا نذكر بعد قليل شيئا من ادائها وطبيعة دورها.
غابت الرواية التلفزيونية، وغابت القصص الناضجة الطرح، لنشاهد اعمالاً لا قدم لها ولا رأس حجتها الوحيدة في أن فشلها مبرر، هو الوضع الامني القائم الآن “وشكرا لنا اننا فعلنا ما فعلنا في هذه الظروف” جملة سمعناها كثيرا ولا ريب اننا سنسمعها كثيرا ايضا كحجة للرداءة، طالما أن صنّاع الدراما ما زالوا يعتنقون الاساليب الرجعية ذاتها التي اشتغلوا فيها بداية الفورة الدرامية التي شهدتها حقبة التسعينيات تدرجا بتدني المستوى الفني والأخلاقي في العديد منها حتى اللحظة، غاضين النظر عن كون البلاد بحاجة ماسة اليوم، بفعل ما تمر به من احداث عنيفة، لفن سوري مميز أولى اولوياته ان يكون في الخندق الذي يقف فيه جيش البلاد وشعبها، حيث تأخذ الاشكال الفنية على عاتقها في بلد يخوض حربا شرسة بجبهات سياسية وعسكرية وفكرية مختلفة، أن تكون أيضا من حماة الثغور جنبا إلى جنب مع الوطن.. هكذا يقول منطق الفن على الاقل.
تمام علي بركات