ثقافة

جورج جرداق موليير الشرق..

عرفت الصحافة اللبنانية، والعربية الكثير من الكتّاب الساخرين الذين انعطفوا في مسيرتهم الإبداعية ليصبحوا نسيج ذواتهم، من تركوا بصمات واضحة في عالمهم بدرامية محسوبة هي الأكثر حضوراً في المواقف، والتجليات الإبداعية، والأثر الباقي لما دونوه، وذهبوا به إلى الرؤيا من الحياة، والإنسان، ومعضلاتهما.
لكن موليير الشرق، جورج جرداق كان الأكثر حضوراً، والعلامة الفارقة في مسيرة الكتابة الساخرة، ولحظاتها، فزاويته «جرداقيات»، على سبيل المثال، هي إحدى عيون الكتابة في الصحافة اللبنانية في ثمانينيات القرن الماضي، فهو كاتب الأغاني، والمسرحي، ومحترف الزوايا، ولعل الموضوعات التي انفرد بها جرداق كانت تشكّل بذاتها وثائق نادرة عن اليوميات اللبنانية، والعربية، ومفارقاتها الفنية، والسياسية، والأدبية، فضلاً عن تلك السعة من الموضوعات، وثمة موضوعات الرحلات، ومواقفه منها، مقارناً العواصم، والمدن، وباحثاً عما يشبههما، ليروي ما علق بذاكرته، فيقول في إحداها: «المدن أشبه بالنساء، بل قل إنها نساء بكامل شروطهن، فكل مدينة امرأة لها «جسمها، و”كسمها”، ووجهها»، فهناك المدينة الطفلة، والمدينة الغبية، والمدينة الشمطاء، وهناك المدينة الحالمة الهامسة، والمنفردة الكئيبة التي تبحث عن الأمل في نظرات الغرباء، ووجوه المسافرين، وهناك المدينة الوثنية، والمتعبدة، واللعوب، والوثيرة المثيرة، والعابدة، والفنانة».
لكن عالم جرداق لم يكن ليكتفي بأن يمر بالمجاني من أمام شاشة المعنى، فالرجل شُغل على الدوام بأبعاد حياتية، واجتماعية مختلفة، لاسيما ناهبو البشر، ومستغلوهم، وصانعو أقدارهم، فكانت له تلك المواقف الطريفة في هجائهم على طريقته الجرداقية، والتي غالباً ما يبرع في بنائها بشكل فني-حكائي، وذلك ما يميز بناء المفارقة الساخرة التي اشتهر بها، ومن ذلك أنه قدم عام 1972، وعلى سينما الكابيتول في بيروت، مسرحية بعنوان «قضية وحرامية»، ومثّل أدوارها الفنان الكبير دريد لحام، والفنانان الراحلان: نهاد قلعي، وفيليمون وهبي، وتطرق فيها، وهو كاتبها، إلى المحتكرين، والتجار، واللصوص، وكانت عبارته الساخرة: «غني في الحال وارقصي يا دلال»، شارة مميزة أراد بها أن يقرأ الحال، بل أن يكون لسانه، وعنده أن السخرية في الأصل ليست حكاية فحسب، وإن أخذت أسلوبها، وليست كلمة فحسب أمام الزمن، وإن كانت مادتها، لكنها الموقف الذي يعرّي القضايا، ويفنّدها، مقرباً إياها من ذاكرة متلقيه ليبتدع ما أسماه «بحديث الحمار»، ليكون حديثاً أولاً وثانياً إلخ،  والسؤال لماذا كان «الحمار» قناعه، ليقول ما هو أبعد من مجرد حكمة، أو موعظة، أو جرياً على استنكاه الموروث الشعبي.. هنا يسبغ جرداق على روّي حكاياته إحساساً خالصاً بالنزعة المعرفية لأصل الحكاية، وفيما تلا من حكاياته يدرك القارئ دون أدنى عناء ما يرمي إليه جورج جرداق في محكياته، وبكفاءة سردها الموحي شغفه بالرمز والدلالة، بل شغفه أكثر بالأبعاد الشفوية، والتي شكلت جزءاً من الموروث العربي السردي الأقرب فعلاً لذاكرة المتلقي.
وتجليات السخرية في جلّ ما كتب سوف تتبدى للمتابع الدارس بكليتها، وبشذريتها الموزعة في متون مقالاته، وزواياه الشهيرة، والتي تذكّر بمآثر الساخرين العالميين، وبمآثر مجايليه، ومنهم محمد قره علي في كتابه الأشهر «الضاحكون»، حيث يذهب الأخير في كتابه الموسوم،  «الضاحكون»، إلى التأليف بين النادرة، والحكاية، والحدث، واليومية، والأفكار، والطرائف التراثية، ليشكل منها لوحات خالصة، وهي في مجموعها تشي بمواقف مفارقة لما نعرف، ومؤسسة على ما نعرف، ولكن بإيثارها البعد المعرفي، وباتكائها على اللغة الواضحة في خطاب متماسك، ليصوغ ضحكات مشرقة، لكنها تنتهي بالتأمل، وبالطرق المتعددة لالتقاط المعنى.
جورج جرداق الذي رحل عن عالمنا بعد أن طوى الثمانين ونيفاً من عمره، يصدق فيه قول الشاعر العربي زهير بن أبي سلمى:  «ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم»، فهو الذي نظر يوماً إلى الحياة من زواياها الأكثر وضوحاً، ليحمل رسائله إلى الأحياء، لعل السخرية إنسان حينما يمضي هو.. وتبقى السخرية فناً نحتفي بأثره بيننا بما ينطوي عليه من رؤيا متعددة للذات، والآخر، والعالم، وبقدرتنا على الضحك بقدر ما يكون الضحك هجاء طليقاً لمفارقاتنا العصية على التعليل في الأغلب الأعم.
أحمد علي هلال