ثقافة

كسر الإيهام بين مفهوم الجدار الرابع ومعناه

تتعدد تقنيات كسر الإيهام بين منطقة اللعب”المنصة”ومنطقة الفرجة”الصالة” الكاشفة للصنعة في المسرح داخل المسرح، حيث أن الفلسفة الفنية للدراما التقليدية، تسعى لإيهام المتفرج بواقعيتها محاولةً خداع حواس المتفرج من خلال إيحائها له بإمكانية واحتمال وقوع أحداثها وكأنها وقائع من الحياة عبر حوار يأتي على لسان الشخصيات وكأنه من الواقع، لكن رغم محاولة الدراما التشبه بالحياة لا نجد أن الوهم يختلط بالفن؛ فالمتفرج ليس بالسذاجة التي تجعله يظن أن خشبة المسرح هي المكان الحقيقي للأحداث، ولا بد من اعتماد تقنيات كاسرة للإيهام.
تعد بعض أعمال شكسبير وتوماس كيد وفرانسيس بومونت،إرهاصة أولى على مسرحة المسرحية،حيث قدم بومونت صوراً عديدة لكسر الإيهام في إطار كتابته الإيهامية، كما تعددت صور كسر الإيهام من خلال كسر الجدار الرابع بين مساحتي الحضور في منطقة الأداء من منصة التمثيل ومنطقة الفرجة في صالة العرض (وهما بالطبع فوق منصة التمثيل طبقاً لمسرحيته) ويتجلى التعدد عندما تقطع منطقة الفرجة أحداث منطقة الأداء، فعندما يبدأ مقدم المسرحية بالقول: “سيداتي سادتي” في افتتاحية عرض أحداث مسرحيتي”الليلة تدور في ذلك البلاط”يخرج إليه بعض المتفرجين المفترضين فوق منصة التمثيل يطالبونه بعرض محدد “الليلة نرغب أن تقدموا لنا مسرحية عنوانها تاجر من لندن”، من الممكن أيضاً أن يتم كسر الجدار الرابع عن طريق قطع منطقة الأداء، منطقة الفرجة، أو اختلاط منطقة الأداء بمنطقة الفرجة إلى حد التلامس ذلك عندما تعايش إحدى الشخصيات من الحبكة الخارجية الوهم الفني من أحداث المسرحية الداخلية كواقع، جدير بالذكر أن هذه التقنيات استخدمها المخرجون والكتاب في القرن العشرين كوسيلة لهدم الجدار الرابع، إذ استخدمها بسكاتور في المسرح السياسي وطورها بيراندللو ليناقش من خلالها نسبية الحقيقة واستعملها برتولد بريخت ليطرح نظريته الدرامية والمسرحية.
نذكر لبيرانديللو المسرحية العالمية “ست شخصيات تبحث عن مؤلف”التي تم كسر الإيهام فيها وكشف الصنعة الفنية من خلال الجدل القائم بين الشخصيات الست، كوهم فني خلقته مخيلة بيرانديللو أثناء محاولتها أن تجسد نفسها وتعرض مأساتها، بوصفها جوهراً مسرحياً وبين شخصيات المسرحية الإطار كوهم آخر ابتدعه المؤلف، إذ يتحدد دورها في النص على أنها مجموعة من الممثلين تحاول أن تقدم “قواعد المبارزة” لبيرانديللو وتجسد الشخصيات الست الرافضة لأي صورة يحاول الممثلون أن يقدموها بها، على اعتبار أن هذه الصورة لا تخرج عن كونها وهماً فنياً يسعى إلى تأطيرها في نمط تمثيلي يزيف حقيقتها كخيال مسرحي. يرفض الأب أن يطلق على عرض الشخصيات الست لمأساتهم أمام الممثلين اسم “البروفة” إذ لا أحد من الشخصيات يقدم أي نوع من المحاكاة “التمثيل” فقط يقتصر المشهد على عرض مأساتهم، لكنهم يحيونها فعلياً كشخصيات فاعلة لهذه المأساة “كيف تقول أنها مجرد تجربة إذا كنا نحن الشخصيات” نلاحظ كيف أن بيرانديللو استطاع أن يكشف آليات مستوى الوهم الفني الأول أمام الجمهور.
يتم كسر الإيهام بطرق ووسائل مختلفة كقطع تسلسل الأحداث في أحد مستويات الأداء،أو بواسطة حوار يقوم به الجمهور المفترض فوق المنصة مع بعضه لينتقد بعض الأشياء،أو سلوكيات المجتمع كالحديث المباشر من الممثل إلى المتفرج أي التداخل المقصود بين منطقة اللعب ومنطقة الفرجة، وربما تكون بزج الجمهور إلى المنصة،من الممكن أيضاً أن تكون بدخول الممثلين من الصالة إلى المنصة بتوزيعهم بين المتفرجين في الصالة،أو بتصنيع الفعل المسرحي أمام المتفرج من تغيير في الديكور والإكسسوار،الأغنية أيضاً التي تطلقها إحدى الشخصيات والتي من شأنها أن تثير تناقضاً بين الحالة النفسية للشخصية والفعل الدرامي، كما أن تداخل الأزمنة عبر قطع الإكسسوار أو الشخصية المسرحية، وأحياناً بتذكير المتفرج من آن لآخر أنه في مسرح بترديد كلمة مسرح من قبل المؤدي، وتكرار الفعل المسرحي أو تكرار الجمل السردية، وتكرار اللوحة بإعادة تجسيدها درامياً كما ذكرنا سابقاً عن بريخت أو تكرار الثيمة الحاكمة للمسرحية الإطار في المسرحية الداخلية .التناقض في بناء الصورة المسرحية بتناقض فعل الصورة مع الحوار الحامل للفعل، أو التعليق المباشر من شخصيات المسرحية، المبالغات الكاريكاتورية في رسم الشخصية أو تشخيصها، لعب إحدى شخصيات المسرحية الإطار دور المخرج أو المدير الذي ينظم العرض المسرحي”المسرحية الداخلية، استحضار شخصيات غائبة إلى الصورة المسرحية عبر خيال الشخصية الدرامية، إذ يتدرج وعي الشخصية الدرامية بذاتها بين الوهم الفني في الحبكة الداخلية والواقع الدرامي في الحبكة الإطارية، في المسرحية الميتاتياترية التي تحمل تقنية المسرح داخل مسرحية، ما بين ازدواج وعيها بذاتها وبالدور المسرحي الذي تلعبه حالة كونها ممثلا، وما بين انتقاء وعيها بدورها وبشخصها الأمر الذي يختفي فيه الخط الفاصل بين ذاتها الواقعية ودورها الفني، فتتوحد مع الدور وتلتصق به.
لا بد من التأكيد على أن الميتاتياترو لا يشير فقط إلى كشف آليات اللعبة المسرحية، ولا إلى وعي المؤلف بتقنياته المسرحية، بل وحسب بعض المختصين يتسم بمجموعة من الخصائص، بعضها يميز دراما القرن العشرين التي تواجه الدراما الطبيعية والواقعية وبعضها الآخر يميز تلك الدراما التي تندرج في نفس المضمار وتحمل تقنية المسرح داخل المسرح، ومن ناحية ثانية يكشف المصطلح ذاته عن الطبيعة المسرحية لكل من الحياة والدراما، وازدواجية الفكرة عندما يتشابك الحلم مع الواقع بافتراض أن الميتامسرحية تتشكل من دمج العالم كمنصة تمثيل مع الحياة الحلم لتنتفي بعدها الحدود الفاصلة بين النص الدرامي والحياة، وتصبح “الفنتازية” أحد الأوجه التي تميز المسرحية الميتاتياترية. غير أن بعض الفرضيات ومنها فرضية “آبل” حول احتواء المسرحية الإطار على عناصر ممسرحة، حتى ولو لم تكن كاملة ليست إلا  مفهوماً آخر للمسرح داخل المسرح الذي يعني عرضاً مسرحياً يقدم جزئياً أو كلياً داخل المسرحية المعروضة، أو كما ذكرت “آن أوبرسفيلد” في كتابها “مدرسة المتفرج”: “ليس من الضروري أن يكون هناك فضاءان حقيقيان متمايزان حقاً فوق المنصة أحدهما يقوم بوظيفة المسرح بالنسبة للآخر. بل يكفي أن تكون هناك رموز مسرح تفرض نفسها على عدد من الممثلين الحاضرين فوق المنصة لكي يمكننا التحدث عن مسرح داخل المسرح” مستمدة ذلك من مسرحية موليير “دون جوان” من حيث علاقة الشخصيات الدرامية مع بعضها البعض عندما تأخذ هذه موقف المستمع أو المتلقي لفعل تقوم به الشخصية الدرامية الأخرى، حيث تنشأ الملامح المسرحية من أن شخصية دون جوان تتحدث وتتصرف من أجل “سجاناريل” متفرجاً، ووجود هذا المتفرج الخاص يجعل دون جوان في حالة مسرح داخل المسرح. ليتبين لنا أن مثل هذه العروض بآلياتها الميتاتياترية لا تقتصر على دمج الوهم بالواقع وتشابك الحياة بالحلم، بل تقوم بمناقشة القضايا الدرامية والمسرحية في كثير من الحالات التي تشغل صناع المسرح،على اعتبار الميتاتياترو هو الجنس المسرحي الذي يعكس ذاته بكشف آلياته.

تمام علي بركات