ثقافة

عمر حمدي ..لست وحيداً!

في نهاية ستينيات القرن الماضي أذكر أنني وبعض أصدقائي الصغار كنا نتناول المادة السوداء المحشوة داخل عبوات من المعدن أسطوانية الشكل هي بطاريات الطاقة المشغلة للراديو والمصابيح، هذه المادة السوداء الزفتية بقوامها وطعمها كانت البديل عن العلكة نمضغها دون أن نعي أنها مسرطنة أو تخلف الأمراض لنا، حتى أنني كنت أتذوق طعماً لاذعاً في بعض البطاريات مما يدل على أنها لا تزال تحتفظ ببعض الطاقة، وللأسف أن البعض منا نحن الأطفال كنا نمضغ هذه المادة أمام الكبار الذين على ما يبدو أنهم تناولوها قبلنا أيضاً!.
خطرت ببالي هذه المحطة من الذاكرة العجائبية حين مر في ذهني ما قاله يوماً الفنان الراحل عمر حمدي “مالفا” حين سأله صحفي أجنبي عن تجربته الفنية وعن قدرته الفائقة في التلوين التي جعلت منه واحداً من أهم الفنانين الملونين في العالم، هذا الفنان القادم من أقصى الجزيرة السورية والمولود في قرية تل نايف، واحد من أسرة عدد أفرادها تسعة والأب يعمل في حفر المجاري ولا تتعدى أغراض المنزل جميعها “كومة” صغيرة يمكن أن تحملها دابة البيت – الحمار -.
المهم أن هذا الفنان هو ابن هذه البيئة التي يمضغ أطفالها ما تحتويه البطارية والذي يقول فيما بعد إن تفكيك البياض يعتمد في الحقيقة على المقاربات المركبة معرفياً، والتي تشكل منهجاً يقود إلى حقائق منها المعرفة العميقة بالواقع، جاء في تحليله لمصدر الألوان ودلالاتها التشكيلية في لوحته، معتبراً أن اللون النهائي هو البياض حيث لا ذاكرة بيضاء ولا عدم أو عالماً قاتماً أكثر مما مضغته ومضغك الحرمان، ليجعل منك الشخصية الغنية بمفردات المكان المكتظ بتفاصيل ملونة ذات علامات إنسانية أكثر مما هي جغرافية محفوظة في دفتر تحضير معلم الصف الابتدائي أو أطلس المدرسة، بل حمله الفنان في صندوق يحتوي على لوحاته التي جاء بها إلى دمشق على ظهر الباص قادماً من الحسكة لا يملك إلا القليل من المال الذي لا يكفي أجرة عودته للقرية، فقد افتتح معرضه في صالة المركز الثقافي العربي في أبو رمانة، والذي ينتهي إلى حريق أضرمه الفنان في لوحاته في زقاق الجن لأنه لا يستطيع أن يعود خائباً إلى أمه وقد جعل من معرضه هدية لها فهي التي حملته كل هذا العذاب..للراحل عمر حمدي: كنت واحداً منا ولم تزل.

أكسم طلاع