ثقافة

تجليات الألم في أدب فيتزجيرالد

يقال عن الأديب الأمريكي فرانسيس سكوت فيتزجيرالد (1896- 1940) بأنه أديب الأزمة والضياع، وقد اعتبره العديد من النقاد بأنه أصدق ممثّل عن عصره، وصنفوه ضمن أكبر خمسة أدباء في الأدب الأمريكي المعاصر، ولد فرانسيس سكوت فيتزجيرالد في 24 أيلول عام 1896 في مدينة سانت بول في ولاية مينيسوتا الأمريكية، كان أبوه موظفاً متوسط الحال، فصل من عمله قبل أن يتم فرانسيس عامه العاشر، وقضى الفتى طفولة شقية حرم خلالها من كل سعادة، وراقب أمارات الفشل والضياع المرتسمة على وجه أبيه العاطل عن العمل، فانطبعت في أعماق نفسه، وكان لها أثرها في توجيه حياته بعد ذلك، ولولا ثراء إحدى خالاته لما تمكن من إتمام دراسته الثانوية والجامعية، ولكنه وصل إلى السنة النهائية في جامعة برنستون ولم يتخرّج لأنه– كما قال– كان صبياً فقيراً في جامعة خصصت لأبناء الأغنياء، وقد لازمته عقدة الفقر طوال حياته، وكانت السبب في صنع مأساته.
تعرف  فرانسيس سكوت فيتزجيرالد في إحدى عطلاته الجامعية، وكان عمره تسعة عشر عاماً، إلى فتاة وأحبها جداً، لكنها لم تقبل به، ويقال إن أهم سبب لانقطاعه عن الجامعة ما بلغه في السنة الأخيرة عن رفضها الزواج منه، وظل حتى أخريات أيامه يحزن عند ذكرها، وخلّفت في نفسه معاناة لا تزول، وقال: “إن المعاناة هي الطابع الأبرز في كتبي، حتى ليستطيع القارئ أن يلمسها بيديه كما يلمس الأعمى حروف براي البارزة”.
وحينما نشبت الحرب العالمية الأولى تطوع  فيتزجيرالد للخدمة العسكرية، وأثناء خدمته كتب روايته الأولى: (الأناني الرومانسي) التي أرسلها إلى أحد الناشرين، فرفضها، وبعد حين تعرف إلى فتاة أخرى تدعى (زيلدا) بادلته الحب، وبدأا يشيدان معاً قصور الأحلام، ويرسمان خطط المستقبل، وحينما انتهت الخدمة العسكرية رحل إلى نيويورك طلباً للعمل في الصحافة، كي يتمكن من الزواج من حبيبته، لكنه فشل في ذلك وفصلته سبع صحف من العمل فيها،  فاضطر إلى قبول وظيفة صغيرة في شركة إعلانات،  وأمضى أمسياته في كتابة القصص القصيرة،  ثم أخذ يرسلها إلى الصحف والمجلات التي كانت تعتذر عن نشرها،  وقبل أن يوفق في نشر قصته الأولى “أطفال الغابة” كان قد وصله مائة واثنان وعشرون خطاباً من رؤساء تحرير الصحف يعتذرون فيها عن عدم نشر قصصه، وفي الوقت نفسه كانت رسائل حبيبته زيلدا قد بدأت تتضاءل ويتضح فيها الفتور،  فما كان منه إلا أن أنفق كل ما يملك من نقود لشراء تذكرة للسفر إلى مدينتها ألاباما،  وهناك تلقى صدمة جديدة فقد رفضت الزواج منه. بعد هذه الصدمة عاد فيتزجيرالد إلى نيويورك حزيناً يائساً،  فهجر عمله وبدأ يغرق همومه في الخمر،  وقضى ثلاثة أسابيع لا يفيق من السكر،  ثم عاد إلى مسقط رأسه سانت بول بعدما عانى الفشل في العمل والحب،  وهناك بدأ بكتابة رواية جديدة أسماها (جانب الفردوس) وسجل فيها تجارب حياته السابقة في الجامعة والصحافة،  وروى قصة حبه الفاشل،  وختمها بصورة صادقة عن الأسابيع الثلاثة التي قضاها مخموراً،  حين أتمها أرسلها إلى أحد الناشرين،  فوافق على نشرها،  ولاقت الرواية نجاحاً باهراً لم يحلم به كاتبها،  وقد أثنى النقاد على صدقها وتدفقها بالحياة،  و لم تمضِ على صدور الرواية بضعة أسابيع حتى صارت رواية الشباب الذين وجدوا فيها صورة نفوسهم المفعمة بالآمال والأحلام،  وحياتهم المضطربة القلقة،  فاعتبروا كاتبها رائد جيلهم،  وخير معبر عن أزمة عصرهم.
بعد نجاح رواية (جانب الفردوس) لفيتزجيرالد لمع اسمه وأصبح مشهوراً، بدأ بإعادة صقل قصصه القديمة التي رفضها الناشرون سابقاً،  أما الآن فقد أقبلوا على نشرها وأجزلوا له العطاء،  حتى إن إحدى المجلات دفعت له ألف دولار في قصتين كانت عشر صحف قد رفضت نشرها منذ أقل من عام. بعد هذا النجاح اقتنعت حبيبته زيلدا بأنه يصلح زوجاً لها،  فحضرت إليه في نيويورك في 3 نيسان عام 1920 وعقدا قرانهما. إن تلك الحادثة لم تمر دون أن تترك ندبة عميقة في نفس الكاتب،  فقال: “إن الشاب الذي يملك حفنة من المال استطاع أن يتزوج بالفتاة التي أحبها بعد عام من طلبه لها،  هذا الشاب فقد ثقته تماماً بالطبقة الثرية،  وأحس بالعداء تجاهها،  ومنذ ذلك الوقت لم أكف عن التفكير في مصدر الأموال التي تتدفق بين أيدي أصدقائي،  ولم أتخلص من الخوف من أن بعضهم قد ينجح في الاستيلاء على فتاتي ذات يوم”.
كانت حياة الكاتب الأمريكي فرانسيس سكوت فيتزجيرالد سلسلة من الآلام المتصلة بالفشل،  ورغم النجاح الذي أصابه إلا أنه قضى سنواته الأخيرة يعاني وطأة إحساس مرير بالضياع والهزيمة،  وعبّر عن ذلك في كتابه (التصدع) فقال: “جناح مهيض لم يعد يقوى على التحليق، شمعة تحترق من طرفيها، حاجة ملحة إلى القوة الجسدية التي حرمت منها طوال حياتي، ثم الإحساس بأنني أقف وحيداً في غبش الغسق  في بقعة نائية مهجورة وفي يدي بندقية فارغة، وقد اختفت كل الأهداف من أمامي. إنه انهيار الشخصية”. في 21 كانون الأول من عام 1940 توفي فيتزجيرالد في الرابعة والأربعين من العمر إثر نوبة قلبية.. اعتبر النقاد رواياته وقصصه القصيرة نموذجاً مثالياً لكتابات عصر الجاز، وهو المصطلح الذي صاغه بنفسه. وأحد أعظم الكتاب الأمريكيين في القرن العشرين. كما أنه يعبر عن “الجيل الضائع” للعشرينيات. كتب أربع روايات: “جانب من الفردوس،   والجميلة والملعون،  وغاتسبي العظيم،  والليلة الناعمة”، إضافة إلى خامسة لم تكتمل وهي حب التاجر الأخير، وقد نشرت بعد وفاته. وقد مثلت رواياته في أفلام سينمائية أشهرها غاتسبي العظيم.
عماد الدين إبراهيم