ثقافة

“نـادر الأتـاسـي”.. صـانـع الـفـرح.. وداعــاً

حين قدم الراحل صباح قباني لكتاب نادر الأتاسي “حياتي ثلاثية الأبعاد” الذي سطر فيه المنتج السينمائي المعروف والذي غيبه الموت عنا مؤخراً سيرته الذاتية قال: “أتساءل ما جدوى أن أقدم لسيرة الأتاسي بينما سجله كتاب منشور على الملأ، يتحدث وحده عن منجزاته الهندسية والعمرانية الكثيرة التي توزعت على امتداد أرض الوطن” مشيراً قباني في مقدمته هذه أنه وعلى مدار ما يقرب من سبعين عاماً كانت مؤسسة الأتاسي في صدارة البيوت الهندسية الخاصة للإنشاءات والتعهدات التي قامت إما بمفردها أو بالتعاون مع جهات رسمية محلية أو عربية أو دولية بتشييد عشرات المعامل والمجمعات الصناعية والطرقات السريعة وشبكات الري ومحطات توليد الكهرباء والفنادق والمنتجعات السياحية.

من الهندسة إلى السينما
ويعزي قباني نجاح الراحل الأتاسي في مسيرته المهنية في مجال الهندسة والمقاولات إلى أسباب كثيرة، لعل أهمها اعتزازه بعصاميته وقيامه ببناء مؤسسته العملاقة حجراً حجراً ومتابعته الحثيثة لمراحل أي مشروع اقتنع بأهميته، وإقدامه على مجابهة التحديات بجرأة وقدرته على تجاوز الصعاب بهدوء مما جعله يعرف بلقب “المعلم نادر”.
وفي ضوء ميله إلى الفنون بأنواعها ولا سيما المسرح والسينما والموسيقا، انخرط الأتاسي أيضاً في ميدان الإنتاج السينمائي، ولكن على أسس علمية واعية بعيداً عن الارتجالات التي شابت السينما السورية في أيامها الأولى.. من هنا فقد انتهج المبدأ ذاته الذي التزم به في إنجازاته الهندسية حين رأى أن بنيان الصناعة السينمائية السورية كما أي بنيان عمرانيّ لا يرتفع عالياً إلا إذا وضع أسسه أهل المعرفة والاختصاص.
وهكذا استطاع الأتاسي مثلاً أن يجذب الأخوين رحباني وفيروز إلى ميدان السينما، بعد أن كانوا يحجمون عن دخوله وذلك بعد أن تيقنوا أنه سيضع تحت تصرف أي فيلم سينتجه لأحد أعمالهم أرقى الوسائل الفنية وسيأتي له بأهم المخرجين.. وبالفعل هذا ما حصل عندما تعاقد مع يوسف شاهين لإخراج فيلم “بياع الخواتم” وهنري بركات لإخراج فيلم “سفر برلك” و”بنت الحارس” وهذه الأفلام تُعتَبَر من أجمل الأفلام الغنائية العربية.
ومن منطلق الإيمان بأن أي إنجاز يجب أن يكون من الدرجة الأولى فقد عمد عام 2009 إلى إعادة بناء سينما دمشق وجعلها لا تقل جمالاً ورقياً عن أي دار للسينما في أوربا أو أميركا، وزوَّدها بأحدث أجهزة العرض والصوت وجلب لها أحدث الأفلام العالمية وأطلق عليها اسم سينما المدينة، فأصبحت واحدة من مفاخر المنشآت الفنية الحديثة في دمشق.

مغامرة
حين يعود الفنان دريد لحام بالذاكرة إلى فيلم “الحدود” الذي أنتجه الراحل الأتاسي يتذكر جيداً كيف كان للراحل الفضل في تكرسيه مخرجاً سينمائياً، كما سبق أن كرَّسه ممثلاً سينمائياً عندما غامر بإنتاج فيلم “عقد اللولو” أول فيلم سينمائي يشارك به والراحل نهاد قلعي، ويتذكر لحام أيضاً كيف كان الراحل يقوم بزيارة موقع التصوير ليشجع الجميع بتأكيده على أن الإنتاج سيلبّي كل متطلبات العمل، وهذا ما كان حرص عليه في فيلمَي “التقرير” و”كفرون” لتكون خاتمة التعاون معه سينمائياً بتحقيق حلمه في إنجاز فيلمه “سيلينا” الذي افتتح به سينما سيتي درة الصالات في الشرق، والذي يعتبر لحام إنشاءها مغامرة لا يقدم عليها إلا من عشق وطنه وأتقن صناعة الفرح.. وختم لحام كلامه في كتاب الأتاسي “حياتي ثلاثية الأبعاد” قائلاً: “في مسيرة الأتاسي إلهام لكل من يطلب النجاح على شرط  أن يتمثل سيرته”.

السينما كنشاط اقتصادي
كان العمل السينمائي من النشاطات الكبيرة التي مارسها الأتاسي في حياته، والسبب كما أوضحه في كتابه، أنه ومنذ أيام الدراسة كان مولعاً بأفلام السينما ومتتبعاً للجديد منها الذي تعرضه الصالات، إلا أن حادثة قادته بعد سنوات إلى الاهتمام بالسينما كنشاط اقتصادي جعلته شريكاً في صالات، ليصبح تدريجياً مالكاً لنصف دور السينما في سورية التي أكملها بصالة في العاصمة، لتكون سينما دمشق التي أنشئت في أواسط الأربعينيات من القرن العشرين. لكن مع ظهور الفضائيات بدأ جمهور السينما يقل، فقرر الراحل تحديث السينما ومواكبة التطور الحاصل في السينما العالمية، فأقفلها وباشر العمل على تحديثها لتكون أحدث وأفخم دار سينما في سورية، بحيث تضم صالتين للعروض السينمائية مجهزتين بأحدث الوسائل السمعية والبصرية وبأفخم المقاعد والمطاعم.. يقول الأتاسي في سيرته الذاتية: “بعدما أصبحتُ مالكاً لنصف صالات السينما في سورية فكرتُ في خوض مجال إنتاج الأفلام”. وهكذا كان الأمر فأن=تج عدداً كبيراً من الأفلام نذكر منها: “عقد اللولو” الذي كان بداية الانطلاقة الكبيرة للفنانين دريد لحام ونهاد قلعي، وقد ساهم الأتاسي في إنتاج عدد وافر من الأفلام لهما بالإضافة لأفلام فيروز والرحابنة، وفي فترة الثمانينيات تبنى الأتاسي لحام مخرجاً.

السينما العالمية
قد لا يعرف كثيرون أن الأتاسي وبعد أن فُتِحت له أبواب السينما العربية فُتِحت له أبواب السينما العالمية، فكانت خطوته الأولى في لندن من خلال فيلم “حب مع الأبراج” ففيلم “كسارة البندق” عن باليه تشايكوفسكي بطولة جوان كولينز وفينولا هيوز، وفي أميركا أسس شركة كانت باكورة أعمالها فيلمان من النوع الخفيف استعداداً لإنتاجٍ أكبر تمثل بفيلم “سيد الوحوش” عام 1982 الذي عُرِض في 1000 صالة في أنحاء أميركا وحقق نجاحاً وحصد إيرادات كبيرة، في حين أنتج في فرنسا فيلم “دم الآخرين” عام 1984 إخراج كلود شابرول أحد أعمدة السينما الفرنسية الحديثة ومن بطولة جودي فوستر.

جبران وسيلينا
راود الأتاسي حلم إنتاج فيلم عن الأديب جبران خليل جبران، ولأسباب متعددة قرر تحويل المشروع إلى مسلسل عربي، أوكل الإخراج فيه لمحمد فردوس أتاسي راصداً له ميزانية ضخمة لأنه كان يريد عملاً مهماً ذا قيمة درامية وفكرية كبيرة، بغضِّ النظر عن تكاليفه فأنجز العمل وعُرِض عام 2007.
أما خاتمة مشواره في السينما فكان فيلم “سيلينا” الذي أبصر النور بعد انتظار طويل، حيث كان قد تعاقد في العام 1981 مع الأخوين رحباني على تحويل مسرحية “هالة والملك” إلى فيلم سينمائي كتب السيناريو له منصور الرحباني، إلى أن دارت الأيام ووقع اختياره على المخرج حاتم علي لإخراجه ودريد لحام وميريام فارس وجورج خباز لبطولته، فتم العرض الأول له عام 2009 بنجاح كبير بمناسبة افتتاح  سينما سيتي في دمشق.
وبكلمة إنصاف يقول الأتاسي في سيرته: “لستُ نادماً على إنتاج الأفلام، إذ أنها كانت مصدر سعادتي عند تحضيرها ولدى تنفيذها وبعد عرضها وتوزيعها”.

أمينة عباس