ثقافة

هيلين يوسف: الفن ليس “بروظة”

لم تكن سنوات الفنانة التشكيلية السورية “هيلين ياسر يوسف” السقيلبية- 1978- قد تجاوزت الست سنوات وحبقة، عندما عرفت مرة واحدة وإلى الأبد، أنها ستكون في طالع أيامها القادمة وإلى بقية عمرها، فنانة تشكيلية “رسامة”، كما كانت تسمي حلمها زمن الطفولة، حينها كان اللون الباذخ الدلال هو من يسحر ويصقل رهافتها الحسية، التي كبرت، ونمت معها، وكأنها تطور طبيعي، أو واحد من شروط نموها وأنوثتها أيضاً، وليصبح ما كان في الأمس “البامبي” الدافئ، أملاً رومانسياً حالماً، شغفاً ومهنة ومحبة أيضاً اليوم، خصوصاً والبلد تمر بما تمر فيه، “فالفن إن لم يكن للناس، فلمن إذاً” تقول هيلين.
لم تفاجأ “هيلين” بالاقتراح الذي قدّمه أحد ضيوف معرضها الأول، بعد أن تأمل طويلاً لوحة طبيعية من لوحاتها، لوحة نابضة بالألوان، تحضر فيها كل سمات الطبيعة، ليس كلها تقريباً! وهذا كان اقتراح الضيف الطيب، أن تضيف إلى اللوحة، إلى جانب البيت والشجرة، بضع دجاجات ينقرن الحنطة، حيث كانت اللوحة ستبدو أجمل حسب رأيه لو توفر هذا فيها، الاقتراح الذي ابتسمت له الفتاة الخريجة حديثاً، وهي تعد ضيفها أنها ستفعل ذلك، ولتصبح القصة برمتها، طرفة يتندر عليها الأهل والأصدقاء والأحبة أيضاً فيما بعد “ليس للفن أن يتعالى على الناس ولا على رغباتهم مهما بدت بسيطة، وأي فن يفعل هذا فهو، إما مات أو في طريقه لهذا، الفن ليس نخبوياً تماماً، لكنه أيضاً ليس بلا ثقافة رفيعة وصفات حسية جينية في طبيعته تنحو إلى السمو” قالت هيلين، وتابعت: “هذا لا ينسحب على الفن التشكيلي فقط، بل على كل أنواع الفنون”.
تحمل “هيلين” إجازة في الفنون الجميلة “تصوير” من جامعة دمشق 2002، وهي عضو في نقابة الفنانين التشكيليين-اللاذقية، محاضرة في جامعة تشرين- كلية الفنون، وهي أيضاً مدرّسة لمادة الرسم في معهد “هيشون” في اللاذقية، لذا خبرتها الفنية والعملية، تؤهلها أن تصف بأن قلة الخبرة وضحالة الثقافة الفنية، بالإضافة إلى عدم الدراية الكافية من قبل بعض الجهات التي من المفروض أنها تُعنى بالفن التشكيلي، بطبيعة هذا الفن وخصوصيته، جعلت الحابل يختلط أحياناً بالنابل، وبدّلت القيم والمفاهيم، فالفن “ليس للبروظة” تقول “هيلين” التي تجد انتقائية شديدة وتبايناً حاد المزاج، في التعامل مع الفنانين التشكيليين على مبدأ “الخيار والفقوس”، إن كان في المتابعة، أو في الدعوة إلى المعارض، واقتناء الأعمال الفنية، حيث لم تعد المعايير الفنية والثقافية هي الأساس في إقامة هذا المعرض أو ذاك مثلاً، ولم يعد الارتقاء بالذائقة الفنية للمجتمع وتهذيب إحساسه وذوقه العام، أحد أهم مهام الفن التشكيلي عموماً، باعتباره يدرّب الحواس، ويصقل رهافتها، تقول “هيلين” بأسى باد على محياها: “أقول وللأسف بأن الكثير من القيم الفنية والثقافية تغيّرت اليوم، وبشكل غير مفهوم، فلطالما كانت الفنون يلمع نجمها في الحرب” صمتت السيدة الرقيقة، وتابعت “على سبيل المثال لا الحصر، استضافت دار الأوبرا في دمشق مؤخراً معرضين فنيين، لم تكن الأعمال المعروضة فيهما على المستوى الفني والثقافي اللائق، كان بعضها دون مستوى الوسط حتى، يجب أن ندرك قبل كل شيء أننا نوجه الفن لشرائح متنوعة من الناس نعم، لكن هذا لا يعني إهمال الثقافة الفنية في اللوحة، من المفروض ترقية ذوق المتلقي، لا مسايرته كما يحدث”.
في قلب “هيلين” كما في قلب الكثير من الفنانين التشكيليين السوريين، ما يكفي من الهموم، هموم اللون، هموم الحياة، هموم المهنة، التي تصفها “يوسف” برشاقة على النحو التالي: “قلة الاهتمام من قبل الجهات المعنية بوضع التشكيليين السوريين عموماً، وهذا بالمناسبة ليس شيئاً جديداً علينا، لكن الأمر بات مضاعفاً وزائداً عن حده كثيراً، خصوصاً في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها البلد، كان بالإمكان رصد مبلغ مادي لدعم الفنانين الذين اختاروا البقاء في وطنهم على هجرته كما فعل كثر، وتوفير المواد والألوان بأسعار مقبولة، ومن ثم اقتناء الأعمال التي تجتمع فيها كل العناصر الفنية والثقافية المبدعة، وهذا ما لا يحصل، أيضاً مشكلة عدم التنسيق والتنظيم المدروس عند إقامة هذا المعرض أو ذاك، الفن اليوم بات محكوماً من قبل مديرين تنقصهم الخبرة الفنية والثقافية في تقييمهم لعمل هذا الفنان أو ذاك، وهكذا أصبح الفن الذي قامت عليه نهضة أوروبا، مثلاً، يحتكم لدينا للعلاقات الخاصة، والبزنس، وغيرها من الأمراض التي تقتل الإبداع، وتلقيه جثة هامدة، فهل هذا ما نريده؟!”.
اشتغلت “يوسف” على عدة مشاريع فنية في مراحل مختلفة من عمر تجربتها الفنية، إلا أن لفن “البورتريه” حصة خاصة من قسمة قلبها، خصوصاً أنها اشتغلت فيه على مجموعة من الحالات الإنسانية التي تركت أثرها الخاص في وجدانها ودواخلها: “أحب البورتريه، وأحب الفرادة التي تحملها تلك القسمات المرهقة والمتعبة، البائسة والحزينة، فيها شيء حقيقي، وهو رغم القسوة قادر على جذب الانتباه في أي زمان ومكان، تجربتي بالبورتريه كانت عبارة عن اشتغالات فنية على حالات إنسانية متنوعة، استخدمت فيها تقنية الباستيل، والمائي أحياناً، وهي تجربة ممتعة بالنسبة لي أن أعرض حالة معينة كالبؤس مثلاً برسم بورتريه لأشخاص من جنسيات مختلفة، ملامح الوجوه تختلف من منطقة إلى أخرى، وأيضاً طبيعة الألوان المستخدمة تختلف بين المناطق وفروقها الحرارية”.
وكانت لها أيضاً تجربتها الفنية الخاصة والمميزة مع اللون والفكرة، والتي كانت ثيمتها العامة “فتاة راقصة مع كرسي وشال”، حيث الشال رمز لارتباط روحي مع الراقصة، أو ما يشبه حالتها النفسية، وذلك في تقاطعها مع حالة رقصتها الخاصة، أحياناً يكون الشال معلّقاً أو منسياً، وأحياناً طائراً كما حالها، تجربة حسية مشبعة باللون الرقيق، ورهافة توصيف تلك المشاعر التي تعتمل بدواخل المرأة، وما لها من أثر بالغ ينعكس عليها في الحياة كما في الفن.
في جوابها عن عمر تجربتها الفنية قالت “هيلين”: “مازلت في مرحلة التجربة، أعتقد أن الفن مجموعة تجارب لا تتوقف، ومتى توقف الفن عن كونه تجربة فريدة بحد ذاتها في كل حالة يخوضها، فهو بهذا يعلن أنه انتهى، ولا أعتقد أن الفن التشكيلي المفتوح على اللامحدود قابل للنهاية”.

لنا كلمة
الحديث مع الكثير من التشكيليين السوريين، ومنهم الفنانة “هيلين”، يعطي دائماً الانطباع نفسه بأن ثمة خللاً رهيباً قائماً بين الإدارات المعنية والقيمة عليه، وبين حال الفنانين، وطبيعة أعمالهم وحيواتهم، ما يؤدي بالضرورة إلى تراجع الفن التشكيلي الحقيقي إلى الخلف، في حين يبرز الفن الباهت والمقلد، ويتصدر جدران أهم صالات العرض لدينا، وهذا سيكون له بالغ الأثر مستقبلاً في تشويه صورة الواقع الذي نحياه، عند العودة إلى طريقة أرشفته باختلاف أساليبها، فالفنون وحدها هي من باستطاعتها، إن كانت حقيقية، أن تكون شاهداً لا يفنى على التاريخ، فهلا نتعظ، خصوصاً أن تزوير ما حدث ويحدث لدينا وتغيير صورته هو ما يتم السعي إليه، وفي الحقيقة هذا نجح إلى حد غير متوقع فيما أراد، ومرة أخرى، فهل نتعظ؟!.

تمّام علي بركات