ثقافة

خيبة الدون النبيل

أظن أن سرفانتس لم يكن يعلم؛ حين اتّهِم باختلاس المال العام بسبب مخالفات في حساباته المالية، أنها ستكون التهمة الملهمة لكتابة رائعته؛ التي ستتصدر قائمة الأعمال الأدبية الأفضل على مر العصور؛ أقلّه حتى اليوم.
قد تكون روح السخرية والفكاهة “سمة الرواية التي ولدت في السجن” هي أكثر ما أثار الإعجاب في غالبية القراءات العادية للرواية الأشهر لسرفانتس، لكنها لم تكن الأساس لتكريسها إبداعاً تجاوز عصره في الدراسات الجدية والنقدية التي تناولتها؛ لم تكن النكتة والطرفة بحد ذاتها، بل كانت تلك الروح الطيبة وتلك القدرة التي امتلكها الدون الساذج ببساطته واندفاعه العفوي على أن يضرب عرض الحائط بالكثير من المفاهيم الأدبية التي كانت أقرب للتابوهات وقتها، والتي طبعت الرواية بطابع الرومانسية الخارجة عن المألوف والخيال الذي يتجاوز العقل، فابتعدت بها عن الواقع، وملأتها بقصص الأبطال خارقي القوة؛ ليأتي الدون النبيل؛ مستلاً سيفه يشق به الهواء، ويبدد تلك الأفكار والمفاهيم فتذهب أدراج الرياح، يوقظ نيام عصره من أحلامهم؛ كي يستفيقوا على واقع العبث الذي سيطر عليهم طويلاً.
أتى دون كيشوت ليأخذ بيد الرواية في أوروبا ينتشلها من عالم الخيال، ويقف هو بقصصه ومغامراته، حداً فاصلاً بين زمنين للأدب في أوروبا، زمن ما قبله وما بعده.
لم تأت مغامرات النبيل الإسباني عن عبث، فهو الوحيد العازف عن الزواج، كان أمضى معظم وقته بين الكتب، يقرأ الروايات والقصص الخيالية والرومانسية، والتي سادت في القرن السادس عشر “كان الخيال يأخذه بعيداً مع أحداث القصص التي يقرأها، يرحل مع هذا الفارس؛ يشاركه مغامراته البطولية، ويعود مع ذاك الآخر، ويتماهى مع ما يقرأه، تسيطر على تفكيره وعقله بالكامل وتنقطع به عن الواقع، حتى يصل نقطة الصفر، حيث لا يتمكن من التمييز بين ما يحدث على الورق وما يجري على الأرض، فتغدو الرواية هي الحقيقة التي يعيشها، وهو ما بدا للآخرين من حوله جنوناً مسَّ الدون الوحيد الذي ما لبث يوماً؛ أن خرج وقد ارتدى درعاً قديماً وخوذة متآكلة، وتسلح بسيفه، ثم امتطى حصانه الهزيل، للقتال دفاعاَ عن الضعفاء والمظلومين، ولم ينس أن يصطحب خادمه سانشو كمساعدٍ له؛ الذي اعتلى هو الآخر ظهر حماره، موعوداً أن يحكم جزيرة ما بعد الانتهاء من القتال.
خلطة كاملة المتناقضات؛ الدون بنبل أفكاره، في سعيه لإرضاء الروح والحس الإنساني وسانشو بما يمثله من الفطرة والنّْفْس الباحثة عن تلبية الاحتياجات الغريزية للإنسان، خلطة أضفت المزيد من الظُّرف وفتحت الرواية على أجواء السخرية والتندر؛ والضحك، ولكن…
هل كان دونكيشوت مجنوناً بالكامل؟! على العكس فهو لم يكن مستلباً تماماً، بل لعله غالباً ما كان قادراً بطريقته وفهمه على تقديم مسوغات واضحة، يحاجج ويقدم براهينه الواقعية. لم يكن ينقصه الذكاء والشهامة والشجاعة، ولكن بشكل يثير الضحك والإعجاب والتعاطف في آن معاً، وخصوصاً عندما يوقعه العشق في لجّة الحيرة ويجتاح تفكيره ضياع المحب، بينما يحاول البحث عن طريقة لاستمالة حبيبته الوهمية “دالسينيا” فلا يجد سوى التمثل بفرسان الحكايات وأبطال الروايات.
مغامرات” دون كيشوت” التي أتت في جزأين، وتعتبر واحدة من أفضل الأعمال الروائية في العالم على الإطلاق، يرى النقاد أنها أول خطوة قامت بها الرواية الأوروبية للانتقال من عصر الخيال والرومانسية إلى الحداثة.
واليوم؛ وبينما تتوالى أمام الأعين لوائح الترشيحات لروايات وأعمال أدبية لجائزة من هنا وجائزة من هناك، وتلاحقها الاتهامات فيما بعد بالسرقة حيناً والاقتباس حيناً آخر، ما يفتح الباب على سؤال ينخر في البال: “ما الذي يمكن لدون كيشوت أن يفعله أمام سيل اتهامات طاولت العديد من الروايات الفائزة والتي هي بمثابة ثيمة أدبية لجيل كبير من قراء عصرنا الحالي؟ فأنزلتها من عليائها وفتحت للشك أكثر من باب.
لن يتوقف دون كيشوت طويلاً ولن تطول به حيرته؛ لن يحاجج، سيوقف حروبه في وجه الطواحين، سيأخذ اليأس بتفكيره، يغمد سيفه؛ ويلوي عنق حصانه الهزيل، يجر خلفه سانشو مطأطىء الرأس خائب الرجاء، ويرتحلان إلى البعيد المجهول.
بشرى الحكيم