ثقافة

“دون كيشوت” للأديب الاسباني سرفانتس.. ثمرة الألم و الشقاء

قال الأديب المصري أحمد أمين: (لَا شَيء يُصيّرنا عُظمَاء مِثل الألَم العَظيم), والأديب اليوناني قسطنطين سيمونيدس أشهر الشعراء الغنائيين في اليونان القديمة قَال: (النَّفْس التي لَا تَتألّم لَا تَستطيع أنْ تُبدع في سَمَاء الإنسَانيّة), فالألَم مُفتاح الإبدَاع وطَريق العَبقريّة كما قال الأديب «ويليام جيمس».
لقد اتفق النقاد على أن روائع الأدب العالمي أربعة أعمال هي: الإلياذة لهوميروس والكوميديا الإلهية لدانتي, وفاوست لغوته, ودون كيشوت لسرفانتس, والأخيرة هي تجسيد للمثل والقيم المجردة, وبطلها يمثل الجانب المثالي من الوجود الذي يصرعه الواقع, إنها قصة الوجود نفسه بقطبيه الخير والشر. لقد قرأ محبو الأدب هذه القصة الرائعة في مختلف أرجاء العالم وتمتعوا بما فيها من سخرية وتهكم ومرارة, لكن القلة هي التي تعرف قصة هذه القصة, والحادث المؤلم الذي دفع مؤلفها سرفانتس لكتابتها.
ولد ميخائيل دي سرفانتس ساندرا في قلعة هناريس عام 1547 في اسبانيا, كان أبوه جراحاً وأمضى طفولته حيث كان أبوه يمارس مهنته, عندما شب سافر إلى ايطاليا هربا من توقيع العقاب به بسبب مبارزة بينه وبين شخص يدعى أنطونيو, ويقال انه حُكِمَ عليه بالنفي لمدة عشر سنوات وبقطع يده اليمنى, وفي ايطاليا عمل في حاشية أحد النبلاء, واطلع على كتابات كبار الأدباء الايطاليين, عام 1571 شارك في معركة بحرية بين الأوروبيين والأتراك, فقد فيها يده اليسرى, لم تقطع وإنما لم يعد قادرا على استخدامها, وعندما أراد سرفانتس العودة إلى اسبانيا بعد سنوات طويلة أمضاها في ايطاليا, استقل سفينة مسافرة لكن السفينة هوجمت, وأُخِذَ أسيراً إلى مدينة الجزائر، وفيها أمضى خمس سنوات سجيناً, وكانت الجزائر آنذاك مركزاً للأعمال البحرية ومأوى للقراصنة, حاول أثناء أسره الهرب ورسم خطة مع بعض الأسرى الأسبان, لكن الخطة كُشف أمرها وكاد يُقتل فيها.
عندما لم تُجدِ خطة الهرب أرسل سرفانتس رسالة إلى الملك الاسباني فيليب الثاني فيها الكثير من الشكوى والتوسل من أجل العمل على تحرير الأسرى الأسبان, لكن الملك لم يستطع, فلم يبقَ أمام سرفانتس إلا الافتداء بالمال وتم ذلك سنة 1580 عن طريق صديق له, فترة الأسر هذه كان لها أعمق الأثر في نفسه وإنتاجه, و قصة “دون كيشوت” خير شاهد ودليل على ذلك, وفيها فصول طوال تصف أحداث ما جرى له فيها, كما اتخذ من مدينة الجزائر إطاراً لأحداثٍ كثيرة رواها.
حين عاد سرفانتس إلى وطنه لاقى الكثير من العذاب والشقاء والإنكار والفقر, وتزوج زواجاً غير موفق, كما كان يرتاد الأوساط الأدبية، لكن لم يلقَ إلا التهجم عليه, فعاش بائساً يتردد ما بين السجن وحياةٍ أقرب ما تكون إلى السجن, واعتاش من الكتابة للفتيات اللواتي لا يعرفن الكتابة بعد أن فقد عمله كمحصل للضرائب, إلى أن توفي في 23 نيسان عام 1616.
ظهرت روايته “دون كيشوت” لأول مرة عام 1605 لكنها لم تدُرْ عليه ما يكفل العيش الكريم, ونُشرت تحت اسم “النبيل البارع دون كيشوت دي لا مَنتشا”.
قضى سرفانتس حياة حافلة بالشقاء والمشاكل, وكان من شأن كل ذلك أن يملأ نفسه مرارة وأسىً, تَعِبَ ولم يلقَ جزاءً, وبرَّز في الأدب فلم يكافأ مكافأةً لائقةً, واضطر للعمل في وظائف كانت هي نفسها مصدرَ مصادمات له مع الآخرين, وهكذا يئس من الإنسان والدنيا, وتجرع طعم المرارة في كل شيء, وقد وجد في رواية “دون كيشوت” التي جاءت ساخرة من البطولة الزائفة والعدالة المموهة, والوضاعة الاجتماعية والنفاق, وقد صبَّ فيها كل آلامه وصدماته بأسلوب ساخر فكِهٍ. يقول سرفانتس في مقدمة الرواية:
“أيها القارئ الخلي تستطيع أن تصدقني دون أن تستحلفني إذا قلت لك إني كنت أود لهذا الكتاب ـ لأنه وليد عقلي ـ أن يكون أجمل وأروع وأظرف ما يمكن تخيله, بيد أني لم أقوَ على مخالفة نظام الطبيعة الذي يقضي أن يلد الشيء من شبيهه, وكأنه إنما وُلِدَ في سجن فيه لكل المضايقات مقاعدها, ولكل نأمة حزينةٍ منزلُها”.
إن تجربة الأسر والسجن التي عاشها سرفانتس في الجزائر, والحياة الشقية التي أمضاها لاحقاً في بلده اسبانيا, كل ذلك دفعه لكتابة روايةٍ رائعةٍ جميلة خلدته على مر العصور والأجيال, وجعلت منه رمزاً من رموز الأدب الإنساني.
عماد الدين إبراهيم