ثقافة

سـطــــوة الشــعــــر وخــلــــود الخيـــال

يرد في أحد فصول رواية “الأخوة كارمازوف” للروائي الروسي “فيودور دوستويفسكي” -1821-1881- المشهد الذي يطلب فيه الفتى “إليوشا” إلى أبيه، “أن يعده بعد أن يموت – أي الطفل-، بأن يحُضر الأب الخبز كل يوم إلى القبر، حينها ستأتي العصافير لتأكل الخبز فتزوره أيضا ولا يشعر بالوحشة وهو نائم في موته الفاجع”، يا لها من حالة شعرية عالية، لا يستطيع منطق السرد الروائي تبنيها لولا أنه يعترف بفضل الشعر على الرواية، بل وبقدرته على التدخل فيها متى أصبحت الحاجة إليه ملحة، حتى لتغدو بدونه أي الرواية- وكأنها أقل جاذبية أو بلا سحر، حتى أنه يمكننا القول عموما بأن الرواية التي لا تدخل الشعرية في نسيجها هي رواية جافة غالبا ومملة.
أيضا يمكن إيراد المثال التالي من رواية “الحب في زمن الكوليرا” للروائي الأشهر ” غابرييل خوسيه دي لا كونكورديا غارثيا ماركيث” الشهير ب “ماركيز” أو “غابو” -1927-2014-  وذلك في بداية الرواية عندما يدخل الطبيب لمعاينة الرجل المنتحر ومعرفة سبب الانتحار، ثم يطلب إلى الطبيب المتدرب، الذي يفترض بأن سبب الانتحار هو الحب، أن يستبعد هذه النظرية من تفكيره، فالمنتحرون بسبب الحب، “غالبا ما يوجد في قعر قلوبهم حفنة رمل”، إنها أيضا مشكلة منطقية ومعلومة خاطئة، لا يغفر لها ولا أمكنها أن تمرّ، إلا لكونها شعرا أو تلبس لبوسه – “في قلوبهم حفنة رمل” هذا وصف شعري بحت-، الشعر حلّ هذه المشكلة هنا أيضا وانقذ الموقف، كما سيفعل في العديد من الروايات الأهم في تاريخ الرواية العالمية.
“ثيمة” العلاقة بين الشعر والرواية، ليست بالتأكيد “ثيمة جديدة” لكنها غالبا تطرح نفسها من وجهة نظر مختلفة، كلما استقام لهذا المقام تجديد ما، لن يكون أخره بالنسبة لنا، فوز رواية تحمل روح الشعر في جوهره، كخط عام لأحداثها “موت صغير”  ثم تفوز بجائزة “البوكر” النسخة العربية العربية” 2017 مؤخرا، مثيرة جدلا واسعا حول أحقية فوزها بالجائزة الأنفة الذكر من عدمه، وليس من باب المصادفة أن يفتتح الكاتب “محمد حسن علوان” روايته – التي لم أزل في بدايتها- بالمقولة التالية: إلهي ما أحببتك وحدي، لكن أحببتك وحدك” أيضا إنه الشعر الداخل على الفلسفة “الصوفية هنا” لذا حضر الحديث عن الشعر وعلاقته في الرواية، عدا عن علاقته العميقة أيضا مع فنون أخرى نأتي عليها في مقام لاحق.
لكن العلاقة بين الشعر والرواية، كانت ولا تزال من حيث الشكل، هي العلاقة نفسها بين الأجناس الأدبية كافة، علاقة تغاير، وتعارض، وتكامل. فهما متغايران بما يتصفان به من تكوين داخلي، وهذا التكوين الذي يخالف بينهما، ناتج عن العنصر البنائي المهيمن في كل منهما، وهو ما اتخذه “الشكلانيون الروس” مبدأ وصف التنوع والاختلاف بين الأجناس الأدبية. ذلك في الرواية ماثلٌ إلى السرد، أي في الشكل الذي يوالي نَقْل الأحداث والأفعال والأقوال بترتيب ما. أما في الشعر فماثل في الاشتغال على اللغة، بما يُنْتِج لعباً على الدلالة بالانزياح، وشكلاً منتظماً صوتياً، هكذا وجد أحد المذاهب النقدية، طبيعة هذه العلاقة التي كانت موصوفة سابقا بالصراع، وقدم رؤيته كحالة متكاملة، تجد حلا إبداعيا للعلاقة المعقدة بين الشعر والرواية، لكن هذا ما رفضه سابقا “نجيب محفوظ” الذي اعتبر أننا – هنا كعرب- في زمن أخر وفي أمس الحاجة لفن أخر غير الشعر الذي اشتهر بكونه ديواننا وحامل فكرنا وقيمنا، وكانت مرافعته الشهيرة في هذا ما كتبه حينها وقال فيه: “لقد ساد الشعر في عصور الفطرة والأساطير، أما هذا العصر، عصر العلم والصناعة والحقائق، فيحتاج حتماً لفن جديد، يوفِّق على قدر الطاقة بين شغف الإنسان الحديث بالحقائق وحنينه القديم إلى الخيال، وقد وجد العصر بغيته في القصة، فإذا تأخر الشعر عنها في مجال الانتشار، فليس ذلك لأنه أرقى من الزمن ولكن لأنه تنقصه بعض العناصر التي تجعله موائماً للعصر، فالقصة على هذا الرأي هي شعر الدنيا الحديثة. وسبب آخر لا يقل عن هذا في خطره وهو مرونة القصة واتساعها لجميع الأغراض، مما يجعلها أداة صالحة للتعبير عن الحياة الإنسانية في أشمل معانيها” وإن كان انتصار “محفوظ” للقصة – الرواية- على الشعر، جاء من كون واقع روايته نفسها، لا يعترف بالشعر، إلا في الأغاني الشعبية والطربية التي كان يدمنها في مرحلة زمنية معينة، مفوتا عليه وعلى القراء، الحالة الوفاقية أو الخلطة المثالية بين كيمياء الشعر وكيمياء الرواية، التي كان  من الممكن لو تم التوصل لها عند “محفوظ” أن تثمر عن روائي أكثر عمقا وأهمية وأصالة، إلا أن هذا لا يعني الآن، أنه ما من صراع قائم بين الشعر والرواية، نعم ثمة صراع لم يخفت بريق وهجه وإن كان تحت الرماد، حتى لو تم توصيفه بصفات أكثر كياسة من “صراع” لكن مع بعض الملاحظة نجد أنه ما من صراع بين فنين، لا يمكن توظيفه ببعض الإبداع لصالح الإبداع نفسه، كما فعل بجرأة كل من دوستويفسكي وماركيز، وكذا فعل قبلهما سابقا الساحر “شكسبير” في توظيفه الشعر أيضا لصالح الحكاية، فها هو يحكها، -أي شرف لها إذا، والشعر هو من يحكي الحكاية عند شكسبير؟-، أيضا فعلت الكتب المقدسة ولكن بحذر شديد كما في الآية “رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبا” لاحظوا الشعرية العالية الدلالة والشديدة البذخ في الوصف القرآني عن الرأس الذي اشتعل فيه الشيب، وفي سورة “يوسف” التي تُفتتح بكونها “احسن القصص” “نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ” يدخل الشعر برشاقة في نسيج الحكاية الأخاذة، عن الفتى الجميل الذي رفض أن يخون ولي نعمته مع زوجته التي “شغفها حبه” أيضا سيتولى الشعر المهمة ببراعة بالغة، التقديم لهذه الحكاية البارعة عبر سرد الحلم العجيب “إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين” أية لم يقدر أما شعريتها شاعر كـ “محمود درويش” إلا أن قام بأخذها كما هي في واحدة من قصائده – وهذا ليس غريبا عن درويش عموما، لكنه هنا قام بالتعشّيق كعادته، من نص يعرفه الجميع، وبلغة يعرفها الجميع-، أيضا تبعه في ذلك العديد من الشعراء ومنهم الأردني ” أمجد ناصر” في قصيتدته ذات الثيمة نفسها مع تكثيف وترميز أعلى للحالة الشعرية الباذخة في حلم “يوسف” التي وظفها بإحدى قصائده، وكأنها من نتاجه الخاص، أيضا الشعر هو ما لفت الانتباه في قصة عظيمة بكل المقاييس الأدبية والفنية كقصة “النبي يوسف”!
إذا دخل الشعر إلى كل الفنون وكان ما يلمع منها ويحمل نكهتها، ومن تلك الفنون الرواية، التي لا زالت في مرحلة قصور محليا وعربيا، ولا تعتبر تجربتها مشجعة بالنسبة لحضورها حاليا في الحياة اليومية للقارئ العربي – هذا وحده يكفيها ذما- وفي الوقت الذي دعا فيه العديد من الكتاب والنقاد العرب إلى موت الشعر، معتبرين أن الزمن ليس زمنه الآن بل زمن الرواية – ولهذا ربما لا يوجد لدينا حالة روائية رائدة عالميا وملهمة وصاحبة هوية واضحة وحقيقية-، كان الشعر يجد لنفسه مواضع أخرى يطل منها بقوة، بحيث يصبح المحمول النفيس، والفن الأخر هو من يحمله، إنها ليست علاقة تطفل، بل هي علاقة تراتبية صارمة، فكل فن عرف مقامه أمام معلمه، والفنون ليست “خسيسة” كالبشر كي لا تعترف بالفضل، وإن كان الشعر في العالم العربي بشكل خاص يخسر بلغة السوق وأرقام البيع والشراء للكتاب، لكنه لم يخسر القراءة والقراء، وها هو يثبت وفي العديد من المواضع، أنه لا زال فن العرب المفضل، بل الفن العالمي المفضل، وفي أول فرصة لإظهار هذه الحقيقة، تم التبيان، وها هي صفحات التواصل الاجتماعي تشهد على هذا، فاللغة الشعرية، هي اللغة الأكثر شيوعا واستخداما من قبل الناس على تلك الصفحات، وتبادل المقاطع الشعرية كرسائل مشفرة متبادلة بين العشاق مثلا، هو الأكثر تبادلا على الشبكة العنكبوتية، وهذا يعيد حتى الحب لمربعه الأول، وإن كان بتقنية مختلفة، عندما كان الشعر هو الرسول.
هذا مثال حسي واقعي، عن طبيعة فن يستحيل أن يكون ندا لفن أخر أو حتى في حالة صراع معه، لأنه الفن الأرقى، الفن الأقدر على المرونة والتكييف، ويكفي أن نعرف أن أهم الروائيين العالميين بدأت علاقتهم مع الأدب بالشعر، ومنهم من اعترف بعدم قدرته على النبوغ فيه لصعوبة هذا الفن، فكان خيار الرواية حاضرا أمامهم، منهم “هرمان هسه” “فيكتور هيغو” “همنغواي” وآخرون.
وإن كانت التبعية العمياء للغرب قد جعلت الرواية تتفوق على الشعر في سياق حداثة متأزمة شعرياً، وفي سياق تاريخي ظل دائماً مأزوماً هو الآخر حتى صار صعباً التمييز بين جديد جيد، وجديد يجتر الكلمات فقط ويهذي بالصور من دون أن يحمل رؤيا شعرية ترفعه ورؤية شعرية تميزه، فإن سطوة الشعر على باقي الفنون بطريقتها هي، صار أمرا واقعا وانتهى الأمر، ومرة أخرى، لا أمل من رواية أن تجذب قلوب القراء وعقولهم، لا يدخل الشعر في نسيجها اللغوي على الأقل!.
تمّام علي بركات