ثقافة

أصوات مختلفة في المشهد الشعري المتماثل

يتّسم المشهد الشعري حالياً باتّساعه وبتماثله، إلا بعض التجارب التي بنيت على حساسية خِاصة وأنتجت نصوصاً مختلفة، ذلك بما ذهبت إليه من مواضيع أو  باللغة والبناء .. من المفترض أن تلعب الظروف الاجتماعية والسياسية المستجدة دورا رئيساً في تخليق أدب جديد مغاير، لكن المتابع للمنتج الأدبي لا يلمس هذا، فغالبية النصوص ما زالت ضمن إطار المألوف والمكرر، حتى أننا نقرأ أحيانا ما نحسب أننا قرأناه سابقاً إنما لاسم آخر، مع العلم أنه ليس هناك نص بلا أبوين أو آباء.
يختلف عن ذلك بضع تجارب سنتناول ثلاثاً منها لشعراء دأبوا على إنتاج نصوص حيوية ذات نفس خاص، وهم الشعراء: باسم سليمان وإياد حمودة وأحمد نصرة.
الشعر في الأماكن الوعرة
عمل باسم سليمان من مجموعته الأولى (تشكيل أول) على رسم ملامح خاصة  لتجربته الإبداعية، إن كان من خلال المواضيع التي  شكلت هاجساً ومثيراً إبداعيا، حيث جنح إلى الجرأة في بعضها، بينما اشتغل على مواضيع أخرى ضمن الخطوط  المألوفة لكن بنفس خاص جداً، أو بما يتعلق باللغة وبنية النص التي تبدو مقتصدة مكتملة، وكأنها منحوتة نحتاً وذلك لم  ينل من جزالة روحها وطيفها الجمالي. ففي اللغة جيّر بعض الألفاظ  فقيرة الدلالة في سياق الوحدة اللغوية لتكتسب زخماً دلاليا  بفعل العلائقية الناشئة مع الألفاظ الأخرى. هذه العلائقية الغريبة أحياناً والتي  تكسر حد التناقض أو التوازي بين ألفاظ ليس من المألوف أن تلتقي مع بعض (شوك الماء، شفة السكون، خزفية الريح..)
في مجموعته الثانية (لم أمسس)  أصبح النص أكثر رحابة وحرية بعد أن تخلّص من  توتّره، إلاّ أن اللافت هو زيادة مساحة الجرأة وحدتّها بما يخصّ تلك المواضيع التي  تشكل مقاربتها مغامرة بحد ذاتها.
وقد أضاف إلى تجربته نضجاً في بناء القصيدة وابتعد بشكل ملحوظ وموفّق عن بنية بعض القصائد في المجموعة الأولى التي تقوم على ما يشبه التعاريف بشكل  يحد من حرية المتلقي.
أخذت تجربته منحى آخر  في مجموعته الثالثة (مخلب الفراشة) ففي هذه المجموعة تعمّد الذهاب بالأثر إلى حده الأقصى مجدداً في شكل النص وبنيته، فقد عمل على ما يمكن تسميته بالدفق الشعري، هذا الدفق المسكوب في نص  طويل نسبيا متلاحق وأغلبه لا وقفات فيه بحيث لا يترك للمتلقي فرصة لأخذ النفس، يخرج عن هذا بعض النصوص التي أخذت شكلاً معروفاً.
غامر باسم باعتماد الوحدة اللغوية الطويلة وبالخروج في بعضها عما يمكن تسميته اللغة الشعرية المألوفة، حيث نجد ألفاظاً ومصطلحات من قاموس الاستخدام اليومي  المعني بشـؤون الحياة المباشرة والعاديـة بشكل عام (علبة عينيك، نهدك قطرة في عين حنفية خضراء.. حنفية من النحاس، أدعك كعب الذاكرة بحجر الخفاف).
تتميز تجربة باسم  بدأبه على أخذ الشعر إلى أرض وعرة وكتابة ما ليس تقليديا وترفّعه عن المألوف الذي أصبح ممجوجاً، وهو يجزم أن وراء الشعر لا بد أن يكون الفعل، العمل على إنتاج القصيدة كأي منتج آخر ولا معنى لانتظار الوحي ولا أثر كبير للفطرة، نص باسم متوّتر مشدود ومتأهب دائماً لعمل شيء ما، مؤثر وهو علامة جمالية أكيدة لنتاج خاص.
إنزال الشعر عن سطح القمر
بهدوء ورويّة يرسم إياد حمّودة سمات تجربته وقد أسـس لذلك بإصدار مجموعته الأولى (بوسعي أن أرى الطائر كاملاً).
لا ينقّب حمودة عن الجمال في مجاهل وهمية أو حالمة، هو ببساطة  يلتمس الجماليات المعاشة في تفاصل الحياة اليومية، إنه يحتفي بتلك الجماليات القائمة على حالات لا ينتبه إليها الكثيرون، أو لا يكترثون بها بحكم الاعتياد الذي يسطّح الإحساس بها ويذهب بالدهشة، يفعل ذلك حتى بتلك التي لا تحمل تحفيزاً جمالياً (يفكر.. بالحبل في عنق الكلب، باتجاه دوران الساعة.. تهرول الرغوة البيضاء في قعر المغسلة) هذا لا يعني إطلاقاً التخلي عن المثيرات الجمالية الأخرى، أو خلع الطيف الجمالي عن دوال وقطع علاقتها العضوية مع مدلولاتها، إنه يتجاوز ذلك  للوصول إلى طيف دلالي أوسع وأكثر دهشة.
يبدو حمودة شغوفاً بالتفاصيل، ليس شغفاً حيادياً فهو يرتقي بها إلى مصاف جمالية عالية كما يتجنب الوقوع في المباشرة والتقريرية التي تعتبر مطباً لمن لديه هذا الاهتمام، فهو لا يبحث عن السببية ولا يسعى للتبرير أو التفسير أو ليخلص لنتيجة، هذا واضح في نصوص عديدة منها على سبيل المثال (محض حيوات تتساوى) وقصيدة (خيط لإصلاح العزلة)
في مجموعته الثانية (الشمس لا تشرق من ساعة اليد) يكرّس معالم تجربته وخصوصيتها والتي حرصت على إنزال الشعر عن سطح القمر، وعلى تجاوز تلك الرموز والألفاظ التقليدية التي كان الشعر يقوم عليها، فالوردة قد تؤدي إلى الموت والعشق ليس حالة توهج دائمة، بل هو كمود واستلاب في أوقات كثيرة، والحلم ليس مشتهى وملاذاً.
ما يجب الانتباه إليه خاصة في هذا النمط من الشعر هو ألا يقع الشاعر في مطب التكرار أو إبطاء الإيقاع إلى درجة خفوت الشحنة الانفعالية.
تتنوع الوحدة اللغوية في تجربته بين الطول والقصر، وهذا ما تفرضه طبيعة النص الذي يتطلب إيقاعاً معيناً، في كل الحالات يبتعد عن التراكيب المربكة والتلاعب اللفظي، بعض التشبيهات تحدث انزياحاً في المعنى والدلالة وهي قد تأتي في سياق متناقض ينتهي إلى مؤدى جمالي مختلف عن المعتاد (رصاصة تنطلق من صنبور ماء.. أنت امرأة شهية كالسكاكين….) قاموس الشاعر غني واسع سعة الحياة التي تجري في نصوصه على مهل وبجمال رخيم.
الشعر لمعادلة القلق
يبدأ أحمد نصرة تجربته الشعرية وكأنها صلاة من نمط خاص، لا يفيد معها الماء للوضوء ولا التراب للتيمم ولا حتى النار للتطهر، فالروح لا بد أن تتوضأ بروح وهو ما يجهر به في مجموعته الأولى (توضأت بنبيذ)
تنّم نصوص نصرة عن حساسية مرهفة لا بل حادة، هذه النصوص المختزلة تبدو مبنية بعناية بشكل جعلها مشبعة بالمعنى، نصوص كثيفة بكلمات قليلة هي أقرب إلى مفاتيح دلالية تفضي إلى ردهات لا يمكن الحياد عنها، لكن بشكل موارب وغير واضح تماماً.
في المجموعة الثانية (يشبهني هذا الموت) يسترخي قليلاً، يتضح ذلك من نصوصه التي تخّلت عن شدّها دون أن تفرط بقدرتها التعبيرية وسويّتها الجمالية.
لا يراهن على طول النص فهذا ليس هاماً في الكفاءة التعبيرية، إنما في هذه المجموعة الثانية اتسع النص قليلاً وصار أكثر طلاوة مع المحافظة على بنيته التي تقوم على وحدات لغوية قصيرة ذات علاقة مدماكية مع بعضها، تقوم الواحدة على الأخرى وفي حالات معيّنة تنحرف عنها.  لا يمكن تصنيف كل نصوص نصرة القصيرة بالفلاشات، حيث تتصف بالقصر وتناولها لحالات محدودة تقتصر على موقف أو حالة شعورية، وربما مواجهة ما تنتهي بانتهاء الفلاشة ليس كأثر جمالي بل كحالة فقط، فنصوص نصرة تشتغل في أغلبها على حالات وجودية حياتية أشمل مما تشتغل عليه الفلاشات، بينما نجد البعض منها يمكن أن ينطبق عليه هذا التصنيف
في المجموعة الثالثة (أنعم بالعمى) برأ نصرة من هاجس الموت وخرج إلى الرؤية لكنه لم يخلص تماماً من تبعاته، هذا ما يتضّح من تلك الألفاظ ذات العلاقة بالموت كفعل منجز(شاهدة القبر، روح ميت، الفقد، الفجيعة، سرّ الغياب،الظلّ)
لم تختلف بنية النص، التغيير الواضح كان في قاموس الشاعر الذي فرضه اختلاف حالات النصوص وما اشتغلت عليه، أكّد نصرة في هذه المجموعة أيضاً على خصوصية تجربته بسماتها الوجودية ونصوصها المختزلة بشكل لم ينل من المعنى ولا من الأثر الجمالي.
لا يتخفف نصرة من قلقه في هذه المجموعة ولن يتخفف أبداً، فقلقه هو حالة مستدامة  للتعاطي مع محيطه أو بالأحرى مع الحياة، حالة كما الطاقة والكتلة في الفيزياء الكوانتية.
ربما هذا أفضل لنقرأ نصوصاً جميلة أخرى.
مفيد عيسى أحمد