ثقافة

محطــــــــــــــــــــات

حنين الأماكن

كلما كان يلح عليها الحنين إلى تلك الأماكن، كانت تحاول خنق الإحساس.. لا تريده أن ينمو ويكبر أكثر.. ستقنع نفسها بأنها قادرة على البدء في طريق جديد.. في مكان جديد.. حاولت الابتعاد والنسيان.. كل ما يحصل حولها يذكرها.. مرت رائحة اعتادتها.. الرائحة نفسها التي اعتادت عليها في تلك الأماكن.. رائحة الحارات القديمة.. الجدران.. الشوارع.. يستوقفنا الزمن ليذكرنا بأشياء غابت عن الذهن.. لكن ومع كل هذا الحنين والشوق تتعثر بما صادفها في حياتها، وهي دائمة البحث والتنقيب عن حلمها الذي كبر وكبر أكثر من قبل، حتى حين انتقلت من تلك الأماكن مجبرة على التأقلم  بمكان جديد.. الأحلام الوردية شحبت ألوانها.. الحياة الهادئة انقلبت إلى صخب.. تبعثرت الترتيبات.. ضاع الجهد هباء.. شيء من اليأس بدأ يتسلل إلى النفس.. أوجعها شعور الغربة وعشش في تفكيرها.. أنبتت وحدتها المئات من الوساوس والأوهام… لم يفتح أي من الأبواب الموصدة أمامها.. رغم كل محاولاتها الجادة في الوصول ولو لخطوة واحدة في طريق حملها.. مع هذا لم تقف عند ذلك كله حاولت سبر كل ما صادفها.. أعادت ذكرياتها وما تحدث عنه الناس من الوصول نهاية المطاف، وأنه سيحصد كل زارع ما زرعه.. فإن كثرت الطرق تفتح الأبواب الموصدة مهما طال الزمن.. الآن فقط ستضع عناوين أيامها.. ستمر من كل الطرق والأماكن التي أحبتها.. لن تهرب من مواجهة الصدمات.. ستعاود مراراً.. ستحتفظ بقدسية ما أحسته وما أحبته من تلك الأماكن.. فلو كان بإمكانها النطق  لنطقت الجدران وذكرتها بكل ما رسمته وما تخيلته لنفسها عندما تكبر.. أحست بدافع قوي يدفعها لتتابع نحو هدفها.
مناجاة بحر

كان الوقت ظهراً، ومازال يسير وحده منذ ساعات على الشاطئ، هدفه محدد وواضح، يحتاج إلى شيء يشعره بالراحة والأمان.. حاول أن يغير من حاله.. هرب من الروتين المزهق رأى مخرجاً معتماً.. تسلل بهدوء حتى وصل ممرات ضيقة طويلة مهلكة، لكنه تابع بهدوء وبطء شعر بالشاطئ طويلاً.. طويلاً جداً.. أحس في قرارة نفسه وكأنه يستعيد شريطاً من أرشيف ذكرياته.. صوراً وأخيلة متعددة… بدا سيره كالخائف القلق أن لا  يحقق أي هدف من أهدافه التي سعى إليها، الغربة تكربه.. لم يعتد الابتعاد عن البحر والجبل والشجر، لكنه أرغم.. لم يصدق أن قدميه الآن تلامس الرمل على الشاطئ.. شعوراً ما عاد إلى صدره، لكنه مرهق من البحث والتفكير.. أحس بضيق المكان رغم اتساعه الكبير.. صور وأخيلة ما تزال عالقة في رأسه.. لم يستطع تركها حيث كان.. يبكي كمطعون وهو يتذكر حاله في المدينة، أحس بأنه فقد كل شيء، أضحى خاوياً رأسه مثقل.. كان يكلم البحر.. يناجيه.. يعرض له ما مرّ به.. كان يطيل النظر إليه.. لا يدري كيف تعلق به.. أحب اتساعه وزرقته التي أدخلت بعض الفرح والراحة إلى نفسه.. نسي الذل الذي عاشه بعيداً عن هذا المكان.. نسي المدينة التي تبتلع المشاعر والأحاسيس.. أراد أن يلملم شتات نفسه من جديد.. أحس بنفسه طفلاً يحبو فوق التراب.. يمضغ الأعواد اليابسة ويلتهم الرمال.. ويبقى صدى عميقاً في أذنيه.. المستقبل ما زال أمامك.. تدفقت شلالات البهجة وعانقت ربوع قلبه.. أزاحت عنه بقايا الصبر واللوعة.. هرع من مكانه بفرح عارم وشعور بالأمان صار يعيش حلوله في حنايا روحه.

تغريد الشيني