صدقي إسماعيل.. أشعل حرائق وبعث ضوءاً في كل عتمة

لأنه كان وما زال منارة فكرية ويمثل مرحلة من النهوض القومي والفكر المتجدد الذي نفتقده اليوم كان من الضروري أن تعيد ندوة الأربعاء الثقافية التي أقامتها وزارة الثقافة في مكتبة الأسد الوطنية للأذهان قامة أدبية وفكرية مؤسِّسة كصدقي إسماعيل التي من المعيب برأي د.إسماعيل مروة مدير الندوة أن تغيب عن ذاكرتنا السورية وهو السياسي والمفكر والروائي والفنان التشكيلي والقاصّ والشاعر.

همُّ التعبير بالكتابة

تحدثت زوجة الراحل عواطف الحفار في مشاركتها كيف تعرفت على الراحل في الجامعة-وحرصه على أن يطلعها على الآثار الأدبية التي يتعرف عليها أو يكتبها، منوهة إلى رسالة الشاعر بدر شاكر السياب لإسماعيل  عام 1956 وفيها يلحّ السياب عليه أن تتضمن رسائله إليه نقداً لكل قصيدة ينشرها، مؤكداً فيها أنه الناقد الذي يبحث ويجتهد، مؤكدة أن إسماعيل كان يتمتع بدماثة خلق وسرعة بديهة وظرف ولطف وينشر الفرح أينما حلّ وهو الذي كان يمتاز مزاجه بالصفاء والأفق المفتوح على الفكر القومي والعالمي ولم يُضِع ساعة واحدة دون أن يقرأ أو يكتب أو يترجم ليستثمر أوقاته الضائعة بكتابة الشعر الساخر في جريدة “الكلب” مبينة أنه كان يحمل دائماً همّاً كبيراً يكاد لا يفارقه وهو همُّ التعبير بالكتابة وهمُّ القضية العربية والهمُّ القومي، أما المحنة الكبيرة في حياته فكانت وفاة شقيقه الأكبر أدهم وهو في الثانية والأربعين من عمره، فحزن عليه حزناً شديداً وقد تأثرت حياته بهذه الفاجعة وأصبحت الكآبة تهيمن عليه، وفي العام 1972 توفي إثر نوبة قلبية تاركاً وراءه أعداداً كبيرة من الكتابات المخطوطة والنصوص المعدّة للنشر، وحين لم تتمكن أية جهة من طباعتها ونشرها وجّه الرئيس الراحل حافظ الأسد بطباعة جميع مؤلفاته في القيادة القومية، فطُبِعت في ستة مجلَّدات، كما طبعت الهيئةُ العامة السورية للكتاب فيما بعد مجموعة من الكتب التي خصصها إسماعيل للحديث عن أعلام الفن التشكيلي والشعر العالمي، مشيرة إلى أن أعماله المسرحية بقيت بعيدة عن القراء ولم يُتَح لها الانتشار وأن اهتمامه بها كان من منطلق أن المسرح وسيلة تعبيرية تساعده على إيصال أفكاره الفلسفية بشكل مؤثِّر ومباشر على الناس، وكل مسرحياته بقيت مجهولة عدا “أيام سلمون” التي أُخرِجَت للمسرح بعد وفاته من قبل الفنان أسعد فضة، أما الشعر فأوضحت الحفار أنه لم يُنشر شيء منه، وكما قال أحد النقاد فهو شعر وجيز العبارة محكَم السبك، يشفّ عن أحاسيسه فيجعل من القصيدة لوحة فنية.

تجربة المأساة

ولتجربته السياسية والحياتية التي كانت مصدراً ثرّاً من مصادر إغناء وعيه الفكري كانت أفكاره برأي محمد طربيه مهمّة في كتابه “العرب وتجربة المأساة” وقد اتسمت بالنوعية والخصوصية، إذ أنه نتح من معين إيديولوجيا معينة، وهو من لم يستمد تلك الآراء من مجرد قراءة الكتب  وقد اكتوى بنار التجربة وعاش معاناة قاسية ساهمت -إضافة لمخزونه  وثقافته الفلسفية- في تحقيق تلك الخصوصية ونوعية التأليف، مشيراً طربيه إلى أن عنوان كتابه “العرب والمأساة” مثير وإشكالي ركَّز فيه على فكرتين أساسيتين: تطور الحياة وتغيّر أشكال المأساة وفقا لتلك التطورات واختلاف الوعي بها الذي كرس دائماً مقولة أن الزمن الماضي هو الزمن الجميل، وأن كل ما في الحاضر هو شؤم وقبح ومأساة.. والفكرة الثانية هي أن المأساة من طبيعة الحياة وضروراتها، وكأنما يقول أن الفردوس المفقود ليس في الزمن الماضي ولا في الزمن الحاضر ولا في أي زمن قادم بالصورة التي يتمناها أو يحلم بها بعضهم، وعدم إدراك ذلك هو الذي يجعل من المأساة فجيعة.

وحول لغة صدقي إسماعيل في هذا الكتاب يوضح طربيه أنه أجاد استخدام اللغة بمستويين وعلى صعيدين: صعيد الأعمال الأدبية كالقصة والرواية، حيث نجد  لغة غنية بالإيحاءات وفق ما تقتضيه الطبيعة الأدبية للنص بخلاف لغة الكتاب حيث اللغة فيه مكثفة دالّة واضحة، فإسماعيل فيه يتجه لعقل القارئ، وهذا لم يمنعه من استعمال الصيغ الأدبية عندما تزيد المعنى وضوحاً وجلاء.

جريدة “الكلب”

ويصف بيان الصفدي جريدة “الكلب” التي أنشأها وكتبها إسماعيل بخطِّ يدِّه بأنها كانت ظاهرة طريفة في سورية في مجال شعر السخرية ولم يكن لها مثيل في الوطن العربي، وربما في العالم، وكانت بدايتها في أوائل الخمسينيات (1952) وكانت لها بدايات أولى منذ العام 1944على شكل محاولات ساخرة لطلاب في الثانوية باسم “المنشار” حيناً و”الجسر” حيناً آخر بمشاركة مجموعة أصدقاء، منهم سليمان العيسى وغازي أبو عقل، أما “الكلب” فقد استمرت أكثر من عقدين، وكانت ذات ميزات خاصة جداً، فهي شعر كلها، حتى في إعلاناتها، فكانت ديواناً كبيراً من الشعر الساخر يوجهه إسماعيل إلى شتى أمور الحياة، صغيرها وكبيرها، ولم يكن لها موعد محدد للصدور، وتوزع يدوياً، ويسهم فيها شعراء بين حين وآخر، وها هو صدقي إسماعيل يكتب مؤكداً على شكل الصياغة في الجريدة مع غمز واضح نال الركيك من الشعر الحديث:

نصدرها من عندنا تباعا

وحرمة الشعر بها تراعى

وكل ما فيها على العمودِ

منضبط كمشية الجنودِ

وأشار الصفدي إلى أن الجريدة كان يتصدرها مقال افتتاحي يأخذ شكله الشعري الساخر المعهود، مع أنه كان يتناول حدثاً سياسياً داخلياً أو خارجياً، مبيناً أن الجريدة كانت تتجاوب مع أحداث دارت في العالم، وتعلن مواقف تتعلق بشخصيات محددة، وغالباً من زاوية عربية، وقد تصدرت أميركا -حسب ما ورد في أحد الأعداد- عصابات نهب الدول لخدمة الرأسمالية المتوحشة ودريئتها (إسرائيل):

كم حيرتني أمريكا.. فمنْ

سلَّطها فوق رؤوس العبادْ؟

مجموعة من شركاتٍ لها

تغلغلٌ في كل سهل ووادْ

ويأخذ الوطن العربي جزءاً مهماً من عناية “الكلب” فإسماعيل كما ينوه  الصفدي رجل عروبي صميم، فهو من مؤسسي البعث ورئيس تحرير جريدته، ولعله من أبرز مثقفيه المستنيرين من ذلك الجيل، وهو يتعاطى مع الأحداث العربية من منطلق ينسجم مع فكره القومي أولاً، والإنساني ثانياً، فلا نلمس في اتجاهه هذا شوفينية ما، بل ظل ينتمي ثقافياً إلى التيار العلماني المنفتح على ثقافات العالم، وهو الناقد المخلص والأصيل للماضي العربي، وقد ظلت قضايا الوطن والشعب مدار عمله في الصحافة والثقافة.

ويختم الصفدي مشاركته بالقول أن إسماعيل مثقف استثنائي في زمن استثنائي، لم يكن عابراً في كل ما كتب، بل كان باعثاً لنار الأحلام والإبداع لدى أجيال ومبدعين، وكان حريصاً على الدوام على أن يشعل حرائقه في كل هشاشة تواجهه، ويبعث ضوءاً في كل عتمة.. كان صاحب مشروع ورسالة.

الله والفقر

وفي حديثه عن صدقي إسماعيل الروائي بيّن  د.إسماعيل مروة أنه دلف إلى عالمه الروائي أولاً من خلال روايته “الله والفقر” وهي رواية قصيرة وحكاية طويلة من الضروري الوقوف عند دواخلها لأن كل ما فيها مخلتف عما رأيناه في مسلسل “أسعد الوراق” الذي أُخِذَ عنها، ورواية “الله والفقر” برأيه عمل ملحمي شبيه بالقصة الطويلة “الفهد” التي كتبها حيدر حيدر، والعمل الأهم لاسماعيل -برأي مروة- كان روايته “العصاة” التي تناولتها دراسات عديدة وهي من الأعمال الأولى له التي كرست تقديم المجتمع من خلال أجيال متتالية متحدثاً فيها عن الفساد وضياع المثقف والمجتمع، مؤكداً أن النقاد أجمعوا على أن إسماعيل من الذين أسسوا لفنِّ الرواية السورية.

أمينة عباس