ثقافة

“الدم الهارب من البرتقال” باكورة ديمة حسون الشعرية

تبدأ القصيدة الشعرية عند الشاعرة السورية ديمة حسون من عنوان مجموعتها الشعرية، والمعنى الرمزي العميق الكبير الذي يند عنه هذا العنوان “الدم الهارب من البرتقال” الذي يكاد يُكتب فيه لذكائه وشحنته الشعرية العالية ورمزيته وواقعيته الخيالية بضعة وصوف ستحملنا للأسف بعيدا عن المقال، وبمناسبة الحديث عن العناوين الشعرية وعن مدى خطورة علاقتها بالكتاب، قال الناقد مارون عبود بما معناه أن الكتاب الجيد يقرأ من عنوانه، فإن لم تستطع أن تقول للقارئ تفضل واقرأ من خلال العنوان وبكلمتين، متى ستقول له ذلك؟ ملاحظة خطيرة ومهمة انتبهت لها الشاعرة، التي التقطت تلك الرمزية العالية، بين ما يعنيه البرتقال في بيئتها المحيطة، وكيف حقا صار البرتقال ينزف دما، وذلك في ربط بين الواقعي الاجتماعي برمزيته أيضا في تلك المنطقة، وبين اليفاعة لشبان أكلتهم الحرب وهم في يناعة البرتقال.. البرتقال نفسه الذي يسقط دون أن يجد من يقطفه! تدوين قوي وجريء تشكر عليه الشاعرة، فالشعر أيضا ساعي بريد، ولا يعيبه أن يعمل ذلك أبدا، طالما أنه في خدمة الإنسانية، إلا أن الشحنة العالية من الرمزية التي ذهبت لتكمل فيها مقولتها، جعلت من العنوان إطارا مغلفا بالذهب لقصائد تبدو مرتبكة في معرفتها ماذا تريد أن تقول، ربما هو ارتباك الشعري الذي يصدمه الواقعي الذي  يحيل حتى خياله إلى مادة متغيرة ومتماوجة بأمزجة مختلفة.
لاتتوَقع! واشربْ مَا تبقّى مِن زُجَاجَة مَفاهِيمكَ،/فَقِصّةُ البَحّارِ والبَحرِ/مُؤطّرةٌ بأزليّة النّصفِ، وَأشعّةُ الشّمسِ الغارِبة/نَغمَةُ كَوْنٍ وَصُورةُ زوَالٍ.
ما سبق نهاية قصيدة تحمل أيضا عنوانا له إيحائه الرنان “كادنزا” مصطلح موسيقي لحركة موسيقية، مثل فقرة دون مصاحبة تقدم في أو قرب ختام حركة من عمل موسيقي وتعمل كذروة للعمل، خاصة في الكونشرتو الصولو- ومن معنى الاسم الذي يجيء هنا كحركة تنبيه، منوطة معظم جمل القصيدة ب “لا” النافية، التي وردت 10 مرات في النص، ما يعني أن الشاعرة تحذر القارئ من خلال شعورها بما لا يشعر به، ما يجب عليه أن يقوم به، وما لا يجب أن يفعله، ربما بشكل جاء كنوع من النصيحة الشعرية، وهنا يحسب للشاعرة أنها قامت بتضمين فن النصيحة في قصيدتها بغض النظر إن كان القارئ سيعلم عموما حقيقة تلك “اللاءات العشر” لإفراطها في الرمزية التي تشتغل وفق الحركة الموسيقية ربما، لتجلب حسون الموسيقى إلى القصيدة ولكن هذه المرة من خارجها، باستحضار واحدة من حركاتها وتقنياتها التي تشي بتوقف الزمن، “لاتبحَث عَن ظِلٍّ نَاقِصٍ/ وَكَلمَاتٍ امتَصّهَا الفَرَاغُ/ هُوِيّتكَ مَدَارٌ شَاِردٌ/سُخرِيَةٌ وَهُزَالُ أقدَارٍ” إنه اليأس إذا خلف تلك الكلمات التي تنبه إلى قبحه، ربما هكذا تجلى للشاعرة أن يكون تعبيرها الرمزي عن الحال الواقعي، إنه ميؤوس منه.
تحمل نصوص ديمة شواهد قاسية على حيوات تتفرج عليها وتجري حولها وحيالها، فزمن القصيدة أساسا وزمن من يكتبها قاس بشكل لا يصدق، وليجيء الهذيان بهذه القسوة منددا بها في قصيدة حسون “كم نحن أبرد من تراب” مرة أخرى يدخل الخوف والبرد إلى التفاصيل، وتصبح الصور الشعرية قاسية وصادمة بعض الشيء من امرأة، أي من الجانب الأنثوي في الحياة، والذي يكون أكثر ميلا عادة للجمال وعوالم العاطفة والرغبة والدهشة والأيروتيك، فعندما تصبح القصيدة انعتاق عند إحداهن، هي عند ديمة تطهير ومعاناة وربما توحد مع المكان في الشعور أيضا بما تشعر به الأماكن، “أجمَعُ بَياضَكَ المَرسُوم عَلَى صُورِةِ إِنسَانٍ/لأتحَرّرَ مِن لَعنَةِ الانطفَاءِ/لأتعلّمَ كَيفَ لِلزّنابِقِ أَنْ تَكونَ بُخارَ النّهَار/ِوَكَيفَ لِقطَعِ النّردِ أَنْ تَخَافَ/مِنَ المُمكِنِ المُزهرِ عَلى شَطحَةٍ مِنْ رُخَامٍ؟/ تَعَالَ لأَهبَ فَمَكَ طَعمَ الرّمَاد/ِ وَلنكتَشف مَعَاً الاحتِضَار” إنها القسوة أيضا التي يصنعها اليأس، حركة أخرى تبدو كحركة موسيقية في نقلتها لنغمة أخرى، وكأنما ثمة رابط زمني غير مرئي يجول بين القصائد، يوحد خلفيتها كما يفعل من يجمع لوحة “بزل”، مشتتة مقاطعها المكونة لها في كل مكان، وفي كل زمان أيضا، هنا السرد أكثر من تراجيدي، وميال نحو العويل والصراخ، كأنما الكلمة والصوت وغيرها من أدوات التعبير، استنزفت حتى صارت غير مرئية، فليكن العويل إذا. “وَحدَها الأوزَانُ تُصبِحُ أَروَاحَاً لِذَاكِرَتِنا عَن/شَغفِ الزّجاجةِ للفرَاغِ/وَالقُبلَةِ لعَبيرِ النّعنَاعِ/ المُقَطّرِ مِن نَصّ الزّمَنِ/الِلعَينِ صورةٌ تُجَاوِرُ السّمَاءَ،/وَهي تُدَاعِبُ صَوتَ الجَدَاجِدِ/المشنوقِ بالمَلَلِ”.
إلا أن هذه القسوة المصحوبة من عوالم اليأس لن تطغى تماما على إحساس الشاعرة بجمال ما يكمن في العالم، يشع ربما مثل غرفة بعيدة ضوءها متقد، أو وردة حديقة بيتية بقيت واقفة بعد ليلة من أعاصير وأمطار، “مُذْ أحْببتكَ/وأنَا أُرَتبُ للبَصَرِ وأُرمّمُ للنّهَاياتِ/ظِلّ الشّكِ يَنمُو وَأفكارِي تتبلبَل/ لَكنْ! عِندمَا أَرنو إِليكَ مَساءً يَكتَنِفُنِي السّلامُ” أيضا سيكون الرجاء الإنساني واحدس من أساليب ديمة في دفع الألم بعيدا، بعد شعور حاد بإفراط قوته:
“لا تأتِ مِن وَجَعِ الأنثى أيّهَا النّسْيَانُ/ فيَقينِي لايَزالُ يُغويني/حِينمَا تَبحَث يَداي عَنكَ
أختَفي،/أهدُرُ كَمَوجَةِ بَحرٍ يَتكَلمُ فِي نَومِهِ”.
تجربة شعرية سورية جديدة، ولدت أيضا في رحم المعاناة والقسوة والتعب حد الإنهاك، وفي هذا خير كثير، إن لم يكن بمضمونه، ففي شكله الجذاب وبريقه اللامع.
تمّام علي بركات