دعوة لإعادة الاكتشاف في رواية “مذلون مهانون”
حتى بعد مرور ما يزيد على مئة وخمسين عاماً، يمكن للمرء العودة لقراءة رواية صدرت في حينه، برغم تلك الأعداد المتزايدة للأعمال الإبداعية يومياً، ذلك أن بعض الأعمال الكلاسيكية تستحق أن تُستَحضَر على الدوام، أو أنها تمتلك من القدرة الإبداعية ما فرض حضوراَ لائقاَ بها في ذاكرة الأجيال.
ويبقى فيودور دستويفسكي صاحب “الإخوة كرامازوف” و”الجريمة والعقاب” والذي بدأ الكتابة في العشرينيات من عمره، يبقى واحداً من أهم الروائيين والكتاب العالميين، وبالتحديد أولئك الذين أبحروا عميقاً في دواخل النفس البشرية، وهو بذات العمق قدم قراءته الخاصة للأوضاع السياسية والاجتماعية في بلاده من خلال الكثير من المقالات الصحفية، بينما عرضته تلك الآراء وانخراطه في تجمعات أدبية ناهضت حكم القيصر للاعتقال والحكم عليه بالإعدام مع عدد من زملائه، الحكم الذي تم استبداله في اللحظات الأخيرة بسنوات من السجن والنفي، وهي التجربة التي أرخت بظلالها على ما قدمه من أعمال فيما بعد، وكان وثق فترة السجن تلك في روايته التي صدرت في العام 1861 بعنوان “بيت الموتى” اتبعها بروايته “مذلون مهانون”.
والصحيح أنه لا يمكن اعتبار “مذلون مهانون” كعمل روائي أهم أعمال دستويفسكي إلا أنها بالتأكيد عمل يستحق القراءة؛ والقراءة المعمقة أيضاً إذ تتكشف صفحاتها وأجزاءها تباعاً عن أفكار ومعتقدات صاحبها، تلك التي ألبسها لشخوص العمل، فبدت محبوكة ومشغولة بدقة اشتغال فنان على عمل أثير إلى قلبه، ليضيع القارئ بين أن يصدق وجود تلك الشخصيات على أرض الواقع، أم أنه السّاحر الذي أبدعها قد تمكن بدهاء من الإيحاء لنا بواقعيتها.
الفكرة الركيزة
ترتكز الرواية على فكرة واضحة من اسمها وهي أن الذل والمهانة أمران موجودان في الحياة يمكن لكل منا أن يكون عرضة لهما وإن بنسب متفاوتة يختلف الأمر بين الشخص والآخر، إلا أنه وعلى الأكيد سيكون ذلاً من نوع آخر حين يأتي بسبب الحب، وهو الخط الرئيسي للرواية، علاقة حب غريبة بأطراف أربعة لها الراوي من بينها. فهو أي الراوي “فانيا” واقع حتى الثمالة في حب فتاة تدعى “نتاشا” وتحبه هي الأخرى وترغب به “ما أجمل ذلك العهد! ما أروعه! كانت الحياة تكشف لنا عن نفسها لأول مرة، فتانة ساحرة، وكانت روحانا تمتلئ نشوة بمعرفتها! لكأن وراء كل شجرة، وكل دغل، كائناً يحيا حياة مجهولة، كان هذا العالم الخيالي يختلط في ذهننا بالعالم الواقعي، حتى غدا تكاثف ضباب المساء في الوديان العميقة، كنا أنا ونتاشا، نلقي على الوهدة نظرات مستطلعة خائفة، وقد أمسك كل منا بيد الآخر، نتوقع أن ينبجس منه أحد على حين غرة، ينادينا من قلب الضباب في قرارة الوادي”.
لكن الحبيب الذي “أسكره العشق وأوقعه في المرض، سيرغم على الابتعاد عنها بسبب الدراسة الجامعية وقد بات في السابعة عشرة من عمره، سيتودعان على أمل العودة، إلا أن الأيام كان لها رأي آخر، ستأتي ناتاشا مع عائلتها إلى بطرسبرغ حيث يقيم، وحيث بدأ هو الانخراط في عالم الكتابة والأدب. بعد فترة قصيرة ستنقلب الأمور يمرض “فانيا”-ديستويفكي، كان مصاباً بعلّة الصرع أيضاً- ويتأخر بزيارة منزل حبيبته ويدخل على الخط طرف ثالث هو إليوشا الذي سيغير مسار الحكاية ومسار حياة الفتاة التي تتعلق بالفتى المدلل ابن الأمير، الطفل في كل شيء حتى في علاقة حبه والزواج لاحقاً، سيحزن فانيا كثيراً لكنه سوف يبقى وفياً لقلبه وفتاته، يقف إلى جانبها ويقدم لها العون والنصح لإنجاح علاقة حبها الجديدة، سوف تترك والديها في حال من الخيبة والحزن وتهرب مع الفتى، لكنه سيرغم من قبل والده على الارتباط بالطرف الرابع في العلاقة فتاة غنية وجميلة، والغريب في الأمر أن ترضى “نتاشا” بذلك الزواج على أن لا يبتعد عنها بشكل نهائي، أطراف أربعة في علاقة حب لا تحمل لكل منهم سوى الذل المغلف بالحب.
شخصيات وخطوط
ستظهر في الرواية العديد من الشخصيات الأخرى تتفاوت في أهميتها، تشكل كل منها خطاً من خطوط العمل، كان ابتدأها بحكاية العجوز الذي قوبل على الدوام بالنفور من قبل رواد المقهى في الحي هو وكلبه الغريب، يثيران الريبة والاستغراب، يفكر الراوي ويحلل: “لقد كان الكلب يبدو في الثمانين من العمر هو أيضاً، نعم لا بد أنه في الثمانين، فهو يبدو أكبر سناً من أي كلب في العالم، حين تراه توافق على أن آخر مرة ذاق فيها الطعام ترجع إلى عشرين سنة خلت، إنه نحيل كهيكل عظمي، بل قل كصاحبه، كانت مشيتهما بل كان منظرهما كله كأنما يصرخ في كل خطوة قائلاً: “نحن عجوزان، نعم نحن عجوزان”، هكذا كانا وبقيا ذليلان يعيشان لا يحصلا على الاهتمام سوى بعد الرحيل الأخير “الكلب يسبق صاحبه في الهروب من ذل الحياة”.
التأثير الأكبر سيكون لشخصية استثنائية هي الصغيرة “نيللي” التي عاشت الفقر تباعاً مع أبيها الذي هجر البيت، ومع الأم التي سرقها الزوج الهارب، التي لم تجد من نصيحة تتركها لصغيرتها سوى أن تمتهن التسول من الناس، إذ في الأمر كرامة أكبر من ذل تسول رعاية رجل واحد تخلى عن عائلته، الذي لن يكون سوى الأمير والد إليوشا وحبيب نتاشا، ستموت الصغيرة نيللي التي عرفت منذ البداية حقيقة والدها لكنها أبت أن تذهب إليه وماتت دون أن تحتاجه، قالت لفانيا تخاطبه وقد شعرت باقتراب رحيلها: “لقد تركت لي أمي هذا وهي تموت، فإذا مت أنا، فاخلع هذا الكيس وخذه لك، وستقرأ ما فيه، حتى إذا قرأت ما هو مكتوب في الكيس، فاذهب إليه وقل له: إنني مت، وإنني لم أغفر له” تحيا ذل السؤال وتأبى حياة الذل في كنفه.
الفضيلة!!
أما السيدة الفرنسية فلها هي الأخرى حكايتها التي أهانت كل من عرفها وأهانت الفضيلة التي تجملت بها إذ ظهرت للجميع امرأة لا يجرؤ أي كان على المساس بها لشدة احترامها على عكس عالمها السري الذي ملأته بالرذائل وقبح العلاقات.
عالم دستويفسكي الذي قدمه في روايته هذه عالم كل ما فيه يدعونا لإعادة التفكير بكل ما يحيط بنا، وربما يجعلنا نقع في الحيرة مرة أخرى هل هؤلاء الذين تقبلوا بل استمتعوا بالإذلال أشخاص طبيعيون أم أنهم مجرد مجموعة من المختلين أو أنهم قديسون أصابهم الجنون في لحظة ما، أو أنهم يمثلون الحقيقة التي لا نريد مواجهتها وتمزقنا رغبة بأن نتمثلهم ولا نمتلك الشجاعة للقيام بالأمر، والأهم إعادة اكتشاف الذات قبل سبر أغوار الآخرين.
بشرى الحكيم