عبد الناصر في ميزان الشعر القومي
د. صابر فلحوط
إن الذكرى المتحالفة مع الخلود، للزعيم جمال عبد الناصر 28 أيلول 1970، تشغل في قرائح الشعراء القوميين عواصف من العواطف المتوهجة، والمواجع المتأججة، ما يستحق أن يسجل بمداد الدمع والدم، والإجلال والإكبار في آن .. فمرحلة الكبرياء العروبي، والمجد الوحدوي، والمهابة القومية، التي عاشتها الأمة العربية في عصر الزعيم الخالد، ستظل الأمل، والمرتجى، والبوصلة التي تشحذ الهمم، وتشد العزائم، وتدفع الجماهير للقضاء على اليأس والقنوط والمثبطات التي يقصفنا بها الإعلام المعولم صهيونياً، والإرهاب المسبق الصنع تكفيرياً ونفطياً ورجعياً..
وحسب صاحب الذكرى أنه كلما أمعن الزمن في الشيب، تزداد ذكراه شباباً، وصباً في الوجدان الجمعي للأمة، من محيطها الذي كان هادراً إلى خليجها الذي كان ثائراً، وصولاً إلى الانتصارات التي رسختها الحرب الوطنية العظمى في سورية العربية خلال السنوات السبع السالفة. لقد خاض الزعيم الخالد المعارك المتشابكة لبناء أمة تطلع لتحقيق نهوضها الاجتماعي ليقهر التخلف والنكوص، وتتقدم الصفوف للرقي بدءاً بسيادة المواطن، المقدمة الأولى لسيادة الوطن… فكانت صرخته المدوية:
(ارفع رأسك يا أخي)، التي تجاوبت أصداؤها بين ثورة المليون ونصف مليون شهيد في الجزائر، مروراً بنهر الشهادة الدائم العطاء في سورية العروبة، وصولاً إلى حائط الصواريخ على السويس والذي أسهم في انتصار حرب تشرين التحريرية، أعظم أمجاد الأمة في القرن العشرين .. “بصرف النظر عن انحراف السادات ومغادرة الساح قبل اكتمال النصر”.
وليست حرب السويس المنتصرة على العدوان الثلاثي الصهيوني الفرنسي، البريطاني، وقيام الجمهورية العربية المتحدة والدور المفتاحي لحزب البعث العربي الاشتراكي وجماهير الشعب العربي في القطرين فيها، والمعلم الاشتراكي الأكبر المتمثل بقوانين الإصلاح الزراعي، إضافة إلى السد العالي، ومعامل الحديد والصلب في حلوان، وتعضيد الصداقة مع الاتحاد السوفييتي بصفقات السلاح، إضافة إلى قيام حركة عدم الانحياز التي قادت أكثر من ثلاثة أرباع دول العالم في حينها في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية في مواجهة الاستكبار العالمي والغطرسة الصهيونية، والامبريالية الأمريكية، كل ذلك دفع أبالسة الأرض، ووحوش الرأسمالية العالمية والرجعية النفطية، كي يحشدون نيوبهم، وسمومهم العتيقة والمتجددة لطعن مسيرة الزعيم وكل من في مسيرته الوحدوية القومية في الصميم عبر الخنجرين الأمثلين: حزيران النكسة وأيلول الأسود في عمان الذي استهدف المقاومة الفلسطينية جذراً وفروعاً.
وقد تبارى شعراء العروبة في إيقاد الشموع والبخور عبر مسيرة الزعيم، كما انبرى عدد من الهمازين اللمازين لمطاولة الزعيم وإثارة الغبار على ذراه الشماء، وكان بعض المحيطين بالدائرة الضيقة من إدارته لم يحسن نقل الأخبار وبخاصة من العاملين في الحركة الثقافية والشعرية وبخاصة ما قاد إلى اتخاذ بعض الإجراءات دون علم الزعيم، الأمر الذي أورد الإبل على غير أحواضها!!.
وها هو الشاعر الكبير نزار قباني يمنع من دخول القاهرة بعد نكسة حزيران لقوله: (ما دخل اليهود في حدودنا، وإنما تسربوا كالنحل من عيوبنا) حتى إذ التقى الكاتب العربي رجاء النقاش مع (نزار في بيروت) ونقل الحقيقة للزعيم، عاد نزار إلى دارته في القاهرة، وقال في رثاء الزعيم: (قتلناك يا آخر الأنبياء).
وها هو الشاعر العروبي (رشيد سليم الخوري) وبعد غربة نصف قرن في البرازيل، وهو المعروف بشاعر الثورة السورية الكبرى، حيث كانت أشعاره توزع في الجامع الأموي على المصلين إبان الانتداب الفرنسي تمجيداً للثورة وقائدها سلطان الأطرش وكأنها مناشير سرية ضد العدو الفرنسي.
وعندما جاء إلى الوطن بدعوة من الزعيم بعد قيام الوحدة قال وهو في عرض البحر:
بنت العروبة هيئي كفني أنا عائد لأموت في وطني
أأجود من خلف البحار له بالروح ثم أضنى بالبدن
وأذكر أننا دعوناه لإقامة ندوة شعرية على مدرج جامعة دمشق عام 1958 ومن جملة بدائعه قوله:
حتى م تحسبها أضغاث أحلام
سبح لربك وانحر أنت في الشام
أنا العروبة لي في كل مملكة
انجيل حب ولي قرآن إنعام
ما اخضوضر الشرق إلا تحت أعلامي
وازهوهر الغرب إلا تحت أقدامي
بناصري وبأسواني فخرت إذا
باهى الدعيُّ بفرعون وأهرام
ما أقرب الوحدة الكبرى مبخرة
أحلام كل شعوبي وقسَّام
أما الجواهري – متنبي العصر، فقد عبّر عن أسفه لمنعه من زيارة القاهرة مدة عشرين سنة دون أن يعلم السبب بقوله مخاطباً القاهرة:
عشرون عاماً لم أزرك وساعة منهنَّ كانت منيةً ورجاء
وهبي ثقيل الظل كنت فلم أطق أفما أطقت فديتك الثقلاء
غير أن الجواهري وهو المؤمن بالقومية الحضارية، فقد عبّر عن هذا الإيمان في العام 1956 وبقوله في رثاء الشهيد العقيد عدنان المالكي، وقد جاء من بغداد “نوري السعيد”، وما أدراك ما نوري السعيد في ذلك الزمن:
خلفت غاشية الخنوع ورائي
وأتيت أقبس جمرة الشهداء
عدنان إن دماً وهبت رسالة
أنا من صميم دعاتها الأمناء
ويقول في المناسبة ذاتها في العام الثاني لذكرى المالكي:
تنفس الصبح عن مصرية ولها
في المهد شبل قبيل الزأر زآرُ
(اسلم جمال لنا نسلم فقد عرفت
بك الكرامة في الشرقين أمصار)
(يا دافع الخطر الموفي بكلكله
على العروبة لا مسَّتك أخطار)
ويقول في رثاء “الزعيم” ما يخلد على الدهر:
أكبرت يومك أن يكون رثاء
الخالدون عهدتهم أحياء
أو يرزقون ؟ أجل وهذا رزقهم
صنو الخلود وجاهة وعطاء
أما خطبة “الزعيم” في تأميم “القنال” فلها ما تستحق من الإعجاب من الجواهري عبر قوله مخاطباً صاحب الذكرى:
(ولففت رأس الأفعوان بذيله
وطعنه، وخطبتها بتراء)
(وصنعت معجزة “القناة” وودعتهم
وسقيتهم حمم الجحيم الماء)
ويصف وقع خطابات “الزعيم” في وجدان الجماهير وأحاسيسها قائلاً:
(فإذا نطقت ملكت مهجة سامع
وخشوعها والسمع والإصغاء)
(وإذا سكت أشاع صمتك رهبة
حتى يُخال كتيبة خرساء)
ويختم: (يا أيها البطل الشهيد أمضَّه
شوق فزار رفاقه الشهداء)
(نم هانئاً ستمر روحك حرة
وسط الكفاح رفاقك الأمناء)
وإنه ليشرفني، ويشحذ من إرادتي في خريف العمر أن أستذكر وقوفي المتواضع أمام “الزعيم” في نادي الجزيرة في القاهرة ممثلاً لطلاب جامعة دمشق عام 1959 معرفاً نفسي:
(أنا صوت الجيل رعّاد يهزُّ الكون هادر)
(أنا نور البعث هتّاك حجابات الدياجر)
(أنا شعب يعربي النجر رعّاف البواتر)
(أنا إعصار عظيم الهول من ثورة ناصر)
في ظلال الذكرى المترعة بالكبر والوفاء، والأحلام المتعرشة على شرفات الخلود، ننحني إجلالاً لروح الزعيم الخالد جمال عبد الناصر الذي ترك في الساحة العروبية دوياً سيبقى نُقل المجالس وحديث الثوار، وملهم الشعراء وضوء الفجر للمناضلين من أجل وحدة الأمة العربية وسطوع رسالتها الحضارية الخالدة..