“بوحٌ في ظلالِ الزّنبق”.. خميلة العنوان الوارفة
لعلّها من المرّات القليلةٌ التي واجهتني أثناء قراءتي للمجموعات الشعريّة الكثيرة الصّدور هذه الأيّام، تلك الحالة العالية من تدفّق الجمال وفيضه على حواف المجرى، مجرى القراءة. ومن ثمّ القفز من شرفة المخيّلة إلى تلال العشق البكر.حيث مذاقات التّفّاح الأوّل تمتزج وطعم الخطيئة اللّاذع “أليستْ الخطيئةُ صنو المعرفة والكشف؟!” لتشكّلَ حكّة لذيذة على طرف اللّسان والقلب عصيّةً على التّلاشي.
من العنوان إلى فضاءات النّصوص تتناسل الدلالات المورقة وتتعالق الاستعارات والتّوريات بحميميّة غامرة، تحت ظلالِ خميلة العنوان الوارفة الإيحاء، وهي تنداحُ بفراشاتها على كامل سهوب المجموعة الشّعريّة المعنونة بـ “بوح في ظلالِ الزّنبق” للشاعر “أدهم حواط” لاحظوا معي تناغم موسيقى العنوان العام مع أوتار العناوين الفرعيّة، لكأنّها النّدى المتساقط عن شجرته ذات شروقٍ مجيد: (وردة القلب ياسمين، أناشيد على قيثارة الحب، قمر الانتظار، صوت الصّمت، تائه في المنام، وشاية العصافير، احتراق، يا طائر الحبّ، حوار مع الضّوء، نداءات إلى الأرض والقلب..الخ). ربّما تصطدم القراءة الأوليّة بمألوفيّة العنوان، ورومانسيّته المكرورة، لكنّها صدمة الصّحوة التي سرعان ما تتحوّل إلى شعورٌ بالألفة الشّديدة، وقد أشاعته فيك مذاقات الارتشاف الهادئ لعصائر الكلمات. ألم يقلْ القاضي الجرجاني يوماً عن الشّعر: “إنّه يميّز بقبول النفس ونفورها ويُنتقد بسكون القلب ونبوّه”. فمنذ العنوان الظّليل وحتى آخر رفّة حبقٍ في أصيص الدّلالات الشاردة، ستجد نفسك محاصراً بوجيبِ نبيذٍ يدندن في قاع الجرار، يتخمّر بهدوء على حطبِ التّجربة الوجوديّة. والذي شدّ من أواصر لحمتها ورقّة تأثيرها على القارئ، امتزاج سلافة العنوان كـ نصّ لغويّ كثيف الدلالة مع ماء روافده المتفرّعة في الدّاخل كشذراتٍ غيم تائه، ليشكلوا معاً صيرورة العشقٍ النّاجز. فالعنوان المقنّع ببساطته وشروده، بدا مفخخّا بنوايا الانفجار. تاركاً عود الثقابٍ على مقربةٍ من سهوه، علّ قارئاً يهوى لعبةَ الاستمطار، يلامس فتيله، فيتشظّى هطولاً، وهو الذي عاث تزرّراً في ثنايا البنية العميقة للقصائد، فمنذ تسيّدة واجهة المجموعة الشّعريّة كحارس لقمحها وهو يمارس ثعلبيّته في التخفّي الماهر بين ظلالها. إنّ شعريّة المجموعة الحقيقيّة لم تأتِ من إيقاعيّة قصيدة التّفعيلة وموسيقاها وحسب، بل من انزياحاتها الجماليّة المدروسة ومناخاتها العامة الموغلة في جوّانيّة الكائن. فلو استبدلنا “مبتدأ” العنوان مثلاً بـكلماتٍ عاديّة مثل: مشيٌ أو جلوسٌ أو نوم أو قيلولة في ظلال الزّنبق لما تلاشتْ الشّاعريّة كثيراً. لكنّ حضور مفردة “بوح” أعطتها دفقاً أكبر لكونها لغة السّريرة والقلب، ولأنّ المناخ الذي أنبتَ الصّورة الشعريّة هو بالأساس مناخٍ شاعري تكثّفه جملة “ظلال الزّنبق” ما أسهم في نموّ مشهد حواريّ، استسراريّ، بدا وكأنّه يستعيد وشوشات كلّ عشّاق التّاريخ. وهاهم يتناجون بلغةٍ إشاريّة لا يعرفها سوى أصحاب المكابدات العالية، الذين خبروا عذوبات وعذابات الفقد الكبير.
الرافد الثاني لشاعريّة المجموعة هو تلك المفارقات التي أرستها صورها الشّعريّة في مخيّلة القارئ من خلال توسيعها الفجوة ومسافة التّوتر بين بنيتين “البنية السطحيّة للغة المباشرة وبنيتها الإشاريّة العميقة” وقد غدا ذلك من ضرورات الشّعريّة الحديثة. يقول الشّاعر: (ستخرجُ من مساماتي عصافيرٌ، ترفرفُ حول من أهوى، وتحملها إلى حلمي كأزهار الرّبيع). أيّ عصافير مغويّة، تلك التي ترشحُ من مسامات الشّاعر بتواطؤ مع رغائبه يا ترى، لتوشوش في أذن فاتنته، فتأتي طواعية لتلقّح فحولة حلمه بأزهار ربيعها؟! فنحن نعرف أنّ المسامات تطلق رائحة خاصّة في حالة الرغبة الجنسية تستثير الأنثى وتجتذبها لتكتمل عمليّة الخلق. أيّ انزياح أحدثته اللّغة في بنيتها السّطحيّة، لتحفر بكلّ هذا العمق الإشاريّ الجمالي، بين المكونات الأوليّة للغة وأبعادها الرمزيّة، محقّقةً سطوعَ الصورة الشعريّة بكلّ هذا البهاء؟!. ويقول: (أخذتُ من الخمر قطرَ الحنين، وفي غيم قلبي حملتُ المطر، لأهطلَ سكراً بصحو اليقين، وأملأ كفّ الرّمال شجر). هو يقطف “الُحبابَ” المتناثر في فضاءات الكأس، كأس الثمالة المعرفيّة لو شئت، بعد أن مزج مطر قلبه العاشق به، كعمليّة خلط لابدّ منها لإحداث الثّمالة المطلوبة، أي المعرفة الحقيقيّة التي تسعى لخلخلة اليقينيّات القارّة. وقد نجح الشاعر في فكّ مغاليقها، والتّحايل عليها لتفرج عن الينابيع المدفونة تحت أسوارها، منبثقةً في رمال تيهها شجراً ونماء. ثمّ يبحر ثانية في مياه النصوص متوسّلاً زورق عنوانه دليلاً، برحلة أوبٍ وذهاب لا تنتهي، لنعلم بعدها أنّ رحلته الرمزيّة نحو القصيّ، لم تكن إلّا رحلة شاعر طار بأجنحة المخيّلة عبر فضاءات الحلم. وما إن صحا حتى وجد نفسه في حضرة ذاته المتشظية وقد جمعت مراياها المكسورة لتكمل لوحة الواقع الحيّ، فإذا هو في بيت الياسمين الذي هو مسكن الشّاعر العاشق، يلوذ به كلّما صفعته سياط الغربة أو أغلقت شباكها عليه القصيدة، يقول: (بيتُ الزّنابق بيتنا، ولنا به بابٌ يطلّ على النّدى بحكايتين، أنا أمير العاشقين وأنت ملهمتي، ومملكتي وتاجي والنّدى). هكذا تتجلّى الشاعريّة في قصائد الشاعر “حوّاط” متباهيةً بضفائرها تسدلها باقتدار على نافذة القراءة، فتضيء بعتمتها بهو القلب. شاعريّة لم تطمئنّ لأفقيّة الكلمات بحالتها التركيبيّة المألوفة، بل زجّتها في شبكة علائقيّة متكاملة من الحضور والغياب، تضمّنت إلى جانب التركيب اللّغوي والوزنيّ والمناخي العام لطقوس العشق، اتساقاً دلاليّاً آخر، مدّ جسوره في فضاءٍ رمزيٍّ عالٍ، شكّله التّوضّع الجديد للمفردات المنزاحة عن المتواضعِ عليه، ما وفّر بدوره حريّة عالية لعصافير الصّور الشعريّة لتطير بلا قيود نحو أعالي الومض، وهذا ما وهب القصائد جدّة تمايزها عن مفهوم الشّعريّة التّقليديّ المحصور في الوزن والإيقاع وحسب. وبهذا المعنى أتت قصيدة النثر المنقوصة الإيقاع والوزن لتتبوأ مكانتها الحديثة اللائقة نتيجة لإعلائها من شأن الصورة الشّعريّة. فالكتابة في درجة الصفر هي الشّكل الذي تتزيّاه اللّغة اليومية، بينما اللّغة الشعريّة التي تولدت يوماً من الوزن والإيقاع كشأن القصيدة العموديّة وشعر التّفعيلة في ظروف تاريخيّة ثقافيّة دلاليّة مختلفة، لم تعد كافية للتّعريف بشاعريّة النّصوص. وغدا من الضرورة بمكان أن تزجّ الكلمات في علائقيّة مختلفة تهدف عبر انزياحاتها اللغويّة، لخلق دلالات جماليّة مفارقة للمألوف.
وأخيراً لعلّ تيمة الحبّ العالية كانت هي الأبرز بين ثنايا المجموعة الشعريّة التي شربنا من نبعها للتّو “بوح في ظلال الزنبق” لشاعر جعل الحبّ “دينه وإيمانه” يقول: (مرحباً بالضّوء، يجلو مقلتي ويزفّ الكون من قلبي إليّ، كن محبّاً واجعل القلبَ سما، ولكَ الأرضُ ضياءً يا بني).
أوس أحمد أسعد